عبد ربه: عرفات كان مشاكساً مع القذافي… والعسكريون السوريون توارثوا كراهيته
لما يجري في غزة علاقة بالظلم الإسرائيلي المتمادي، خصوصاً إصرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على التهرب من استحقاقات السلام. تفاقم هذا الظلم بعدما اتخذ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قرار التوقيع على اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر (أيلول) 1993.
راهن عرفات على أن يكون اتفاق أوسلو خطوة أولى لقيام دولة فلسطينية على بعض الأرض، لكن بنيامين نتنياهو بنى سياسته على اغتيال الاتفاق ومفاعيله. ولاتفاق أوسلو علاقة بما سبقه، خصوصاً حروب العواصم والعلاقات الشائكة التي قامت بين منظمة التحرير وبعض الدول العربية البارزة.
كان الغرض من الحوار مع ياسر عبد ربه، أمين السر السابق للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ربط الحاضر ببعض الماضي؛ لتسليط الضوء على أحداث لم يتيسر لمن ولدوا بعد أوسلو أن يعايشوها. وهنا نص الحلقة الثالثة والأخيرة:
سألت عبد ربه كيف تعامل عرفات مع هجمات 11 سبتمبر 2001، وعن رفض الرئيس جورج بوش مصافحة الزعيم الفلسطيني في مقر الأمم المتحدة، فتذكر: «أولاً عدم مصافحة جورج بوش هي نتيجة لما رآه الأميركيون اختباراً تلو الاختبار لياسر عرفات، وأن الأخير فشل في الاختبار لجهة إدانة الأعمال التي كانت تقوم بها «حماس» وفصائل أخرى تستهدف المدنيين، ولأنه لم يقم بما يكفي من أجل منع تلك الأعمال، وأن ياسر عرفات أيضاً كان متواطئاً إلى حد ما. ودليلهم على ذلك سفينة «كارين أيه» وغيرها.
كان تصريح جورج بوش الشهير بأن «الشعب الفلسطيني يستحق ما هو أفضل من هذه القيادة الفلسطينية، وهي متورطة في الإرهاب». وعملياً أوجد تصريحه وضعاً انتقلنا فيه فعلاً لمرحلة جديدة بالكامل، مرحلة القطيعة مع الإدارة الأميركية، وإشهار هذه الإدارة العداء الكامل لشخص عرفات، عدا عن العداء للسلطة ككل تحت قيادته.
بعدها طرحوا فكرة أن عرفات يمكن أن يظل رمزاً، ولكن من دون صلاحيات تنفيذية واسعة، وأن تُحال هذه الصلاحيات التنفيذية إلى رئيس وزراء كان الأميركيون قد حددوه سلفاً وهو الأخ محمود عباس «أبو مازن». هذا كان الجانب الأول من عدم المصافحة لأن الإدارة الأميركية كانت قد أعلنت عملياً القطيعة مع ياسر عرفات، ولذلك امتنع بوش عن مصافحته.
على رغم الأجواء التي كانت سائدة فإن ياسر عرفات ذهب (إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة)، وجلس متوقعاً أن تحصل المصافحة. ويومها قال بوش لكوفي أنان (الأمين العام السابق للأمم المتحدة)، إن هذا الرجل يريدني أن أصافحه فليصافح نفسه.
عرفات في 11 سبتمبر: هذه طائرات وهمية
هذه كانت طريقة جورج بوش. في 11 سبتمبر، أنا شاهدت الأحداث على التلفزيون من بيتي في رام الله. أخذت سيارة وانتقلت إلى غزة فوراً، كانت الطريق مفتوحة والمسافة قريبة وتستغرق ساعتين أو أقل، فوجدت ياسر عرفات وحده بالمكتب. كانت فترة بعد الظهر تقريباً بتوقيتنا. وفور وصولي قال لي: أخشى أن يكون هناك طرف فلسطيني أو يد فلسطينية في هذه العملية، لذلك أول نظرية كانت عنده أن هذه طائرات وهمية اخترعت في التصوير على التلفزيون. قلت له: أبو عمار، هذه طائرات حقيقية ضربت البناية. قال: لا، لا، وهمية. الانفجار تم من داخل المباني وليس من خارجها. ما هو الفرق بين داخل المباني وخارجها؟ فقال لي: أنا خائف أن تكون الطائرات فلسطينية. طيب إذا افترضنا أنها فلسطينية فهذا لا يلغي أنه من الخارج.
تذكر عرفات خطف الطائرات على أيدي الفلسطينيين، واعتقد أن هذه يمكن أن تكون واحدة من المغامرات التي قمنا بها في الماضي ومجددة بطريقة مختلفة. قلت له: لا، دعنا نتريث. فعلاً هوية الخاطفين المنفذين لم تتضح يومها. سأل عرفات: ماذا يفعلون في العالم؟ أجبت. كما سمعت، فتحوا حملات تبرع بالدم، دعنا نطلع للتبرع بالدم. قال: أنا رجل كبير بالسن، والتبرع بالدم ممكن يضعفني. قلت له: سنجد حلاً لهذه القضية. المهم أن تقوم بخطوة رمزية وليس المهم أن يأخذوا دماً أو لا يأخذوا، هي خطوة رمزية.
فعلاً، انتقلنا إلى مستشفى الشفاء واصطف عدد من مرافقي ياسر عرفات ومن المواطنين ومن المرضى ومن الأطباء للتبرع بالدم. والمهم أيضاً أننا أحضرنا كاميرات التلفزيون لتصور هذا المشهد. لم يرتح عرفات إلا إذا عندما تيقن أنه ليس هناك أي ضلوع فلسطيني في هذه العملية. وكان هذا متأخراً، يمكن في اليوم التالي أو الذي يليه، عندما تولى أسامة بن لادن الإعلان عن مسؤوليته. ياسر عرفات للأسف كان أيضاً لا يرى أن هذه العملية ستغير من اتجاه سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة وتجاه أعمال الإرهاب. فصل بين هذه العملية وما يمكن أن يكون عليه سلوك الولايات المتحدة. وهذا أدى لتدهور مكانته بالتدريج عند الأميركيين لحد القطيعة الكاملة».
العلاقة الشائكة مع حافظ الأسد
لم تقم علاقة عادية أو ودية أو طبيعية بين ياسر عرفات وحافظ الأسد. ذهب ياسر عبد ربه إلى دمشق بمهمة بعد التدخل العسكري السوري في لبنان سنة 1976 والتقى الأسد. سألته: ماذا قال لك الأسد؟ فأجاب عبد ربه: «جرى اصطدام عسكري في صيدا (جنوب لبنان)، وأيضاً بعض الاصطدامات والمناوشات في منطقة صوفر (جبل لبنان) وغيرها، وتوترت الأجواء وحصلت مواجهة مسلحة بيننا وبينهم (السوريين)، فارتأت القيادة في بيروت ألا ندخل هذه المرحلة من الصدام. وأعتقد أن عدداً من الدول، بما فيها دول الخليج والسعودية بالذات، تدخلت لوقف هذا الاصطدام واحتوائه وتهدئة الوضع، لذلك وافق السوريون على استقبال وفد من عندنا يلتقي مع الرئيس الأسد، فذهبت أنا وفاروق القدومي الذي كان وزير الخارجية، وهو طبعاً رئيس الوفد، والتقينا الرئيس الأسد.
للمرة الأولى يدخل الأسد متجهماً ومعالم الغضب على وجهه. كان من عادته أن يكبت مشاعره، ومن الصعب عليك أن تقرأ في معالم في وجهه ما يدل على أنه سعيد أو غضبان أو موافق أو غير موافق… يعني هذا من المستحيلات. جلسنا فبادر هو. طبعاً، قبل الدخول إلى الاجتماع اشترط عليّ القدومي أن نلعب لعبة مزدوجة، هو الطرف الهادئ والذي يحاول تليين الأمور وأنا الطرف المتشدد قليلاً، يعني المشاغب. طبعاً هو لأن جذوره «بعثية» ولا يريد أن يقطع الحبال نهائياً. المهم، فاجأنا الأسد فوراً وقال: «هيك بتعملوا؟» قلنا: خيراً يا سيادة الرئيس؟ قال: السوريون الذين دخلوا إلى صيدا قطعتم رؤوسهم وتلعبون بها «فوتبول» (كرة قدم) في الشوارع.
أول مرة نسمع هذه التهمة. كان هناك ضابط سوري يبدو تائهاً، فبدل أن يسلك طريق جزين سلك طريق صيدا ولم يجد نفسه إلا في وسط مدينة صيدا، في الساحة، ومعه دبابتان أو ثلاث دبابات… فوجئت الميليشيات الموجودة في صيدا بالأمر وأطلقوا على إحدى الدبابات قذيفة «آر بي جي»، فصار الجنود يصرخون: نحن جنود سوريون… لم يكن أحد «فاهم شو الطبخة»، فأمسكوا نحو 40 جندياً سورياً كانوا آتين بشاحنتين إلى المنطقة من دون حماية أو أي ترتيب مع أحد، وقائدهم ظل مستمراً من دون أن يعرف إلى أين هو ذاهب. فشل عسكري ذريع. الشبان في صيدا، سواء كانوا فلسطينيين أو لبنانيين، أخذوا الأربعين جندياً ووضعوهم في مكان، مدرسة، وأطعموهم وشربوهم وتعاملوا معهم ليسوا بوصفهم أسرى حرب ولم يتعرضوا لهم بإيذاء، ونحن كنا متأكدين من هذا قبل أن نذهب (إلى دمشق)، وطلبنا من الجانب السوري أن يأتي ليأخذهم أو يتولاهم أحد. كان وقتها قراراً، حتى كمال جنبلاط، يعني: هل يعقل أن نأخذ أسرى سوريين؟
تصديت (لكلام الأسد) وقلت له: سيادة الرئيس، كيف هذا الكلام؟ أولاً من المعيب أن يستخدم أحد تعبير أسرى. الجنود السوريون ليسوا أسرى. ثمة خطأ وقع فيه قائد ووجد نفسه في صيدا، وعناصر الميليشيا في صيدا رأوا دبابات لا يعرفون لمن هي، فحصل احتكاك معها ولحسن الحظ لم يصب أحد بإطلاق النار، والأربعون جندياً موجودون وليس هناك قطع رؤوس. فقال: والله هذه هي التقارير التي وردتني، فهل يكتبون لي تقارير كذباً؟
قلت: نرجوك تأكد، ليس هناك أي شخص مصاب، ومن أجل زيادة في التأكد ليبعثوا أحداً أو أي جهة تتسلّمهم. نريد نقلهم بالباصات لكننا لا نعرف إلى أي جهة نرسلهم. قال: حسناً سأتأكد من الموضوع. وكانت حينها معركة تل الزعتر مفتوحة، فطلبنا منه أن يتدخل في معركة تل الزعتر لوقفها؛ لأنها ستنتهي بمجزرة، لأن المخيم محاصر ومطوق وعليه قصف، ولم نكن نريد أن نتحدث صراحة عن سلوك بعض ضباطه. قال: «بيصير خير». لم ينطق بأنه سيحاول المساعدة بل قال: «بيصير خير إن شاء الله». وطلعنا على هذا الأساس. طبعاً اتفقت مع الأخ فاروق ألا نروي كل الرواية؛ لأنه أولاً إذا رويتها فكثير أو البعض له علاقات مع سوريا ولم يقطعها، فلا نريد الإساءة إلى الرئيس الرمز».
«من قتل كمال جنبلاط؟»
زيارة أخرى صعبة لدمشق شارك فيها عبد ربه بعد اغتيال الزعيم اللبناني كمال جنبلاط الذي عارض التدخل العسكري السوري في لبنان. وها هو يسترجع تلك المحطة: «عدنا من القاهرة بعد انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني. وكان لا بد من أن نزور سوريا وحافظ الأسد لنطلعه على النتائج كشيء بروتوكولي معتادون عليه مع قيادتي مصر وسوريا. حصل اغتيال كمال جنبلاط بالتزامن مع دورة المجلس الوطني، أي قبل أيام من زيارتنا لدمشق. سمينا الدورة وقتها «دورة الشهيد كمال جنبلاط» تقديراً له. عندما دخلنا على الرئيس حافظ الأسد أخبره ياسر عرفات بأننا سمينا الدورة «دورة الشهيد كمال جنبلاط»، فسارع الرئيس الأسد إلى القول: من برأيك يا «أبو عمار» اغتال كمال جنبلاط؟
أنا جالس إلى جانب الرئيس (عرفات)، ومعي أعضاء آخرون من اللجنة التنفيذية – قيادة منظمة التحرير. أنا من الناس الذين بدأوا يتوترون بانتظار رد عرفات. عرفات على طريقته عندما يكون غير قادر على إعطاء جواب وأمام وضع محرج للغاية تصبح رجلاه تتحركان ويكرر الكلمات. بعد قليل قال له: من غيرهم يا سيادة الرئيس؟ من غيرهم؟ من غيرهم؟ فأنا خفت يقول: حضرتك يا سيادة الرئيس، فقال الأسد له: من تعني يا «أبو عمار»؟ فأجاب: طبعاً إسرائيل.
ارتحتُ قليلاً، لكن الأسد أكمل: لماذا تعتقد يا «أبو عمار» أنها إسرائيل وليس غيرها؟ فقال له: أنا أعرف المنطقة التي كان فيها كمال جنبلاط. تنزل نزولاً، وفي آخر النزول توجد تحويلة ثم تبدأ بالصعود. هم كمنوا له عند التحويلة، من يقدر يفعل ذلك غير إسرائيل؟».
عرفات لم يؤيد توسيع الحرب في لبنان
اتُهم ياسر عرفات بأنه حرض كمال جنبلاط على نقل الحرب إلى الجبل، هل صحيح هذا الاتهام؟ يجيب عبد ربه: «بصراحة، أبداً. أنا أعتقد أن كمال جنبلاط كان يريد من المقاومة الفلسطينية بقواتها كلها أن توسع الجبهة في الجبل، بل هو الذي يمكن أنه أشرف حتى على حشد قوات الحزب الاشتراكي (الذي يقوده) في منطقة الجبل، وفي المنطقة المشرفة على الكحالة، من عاليه نزولاً. وطلب اشتراك «فتح» في العملية.
«فتح» لم تشترك، وإذا اشتركت اشتركت بطريقة رمزية. الذي اشترك بقوة كبيرة أتصور «الجبهة الديمقراطية» وتمت خسارة نحو عشرين مقاتلاً من الجبهة التي تصدى لها الجيش اللبناني، ليس فقط «الكتائب» أو «القوات اللبنانية» أو غيره. ياسر عرفات فوجئ بالصعود إلى الجبل. أنا واثق بأنه لم يكن في خطته الصعود للجبل ولا التحول إلى بكفيا من ناحية ضهور الشوير والنزول، كما كان يتوقع آخرون.
الذي اندفع في هذا الاتجاه هم ضباط ما يسمى بـ«تكتل أبو موسى وأبو خالد العملة». ياسر عرفات لم يبد المعارضة الكافية لمنع انخراطهم في هذه العملية. لكن لم يكن القرار بادئ ذي بدء من عند عرفات. كمال جنبلاط كان متحمساً للعملية، الصعود إلى الجبل وكسر ظهر القوات الكتائبية وتطويق المنطقة. ما كان ممكناً لأحد أن يصعد إلى الجبل ومنطقة عاليه إلا بموافقة اشتراكية.
وياسر عرفات لم يكن مؤيداً أيضاً لاجتياح بلدة الدامور اللبنانية. ياسر عرفات لبنانياً لم يقطع محاولات إعادة الاتصال بالطرف الآخر كما يسمونه في لبنان، أي «الكتائب» وكميل شمعون والآخرين. وكان يحرص على أن يبقي «شعرة معاوية» بهذه الاتصالات، وكان يشجع المقربين منه مثل أبو حسن سلامة وأبو الزعيم على أن يواصلوا هذه الصلات. ياسر عرفات، عندما حصل اقتحام الدامور، وبعد قصة تل الزعتر، هو الذي دفع بمجموعات وبقوات من عنده لمحاولة عدم تحويل الموضوع إلى مجزرة.
وأكثر من ذلك هو الذي أجرى اتصالات، كما أعتقد، مع شمعون لكي يذهبوا إلى السعديات، ومن هناك يتم نقلهم عن طريق البحر… كان هنا بعض المجانين الذين ربما أرادوا ارتكاب شيء من المجزرة بالكنيسة في الدامور؛ لأن ثمة أناساً لجأوا إلى الكنيسة، فأرسل من يحمي الكنيسة. أنا واثق، لم يتورط ياسر عرفات في الدخول بحرب قذرة من هذا النوع».
مع محمود درويش وعرفات في شمال لبنان
عام 1983 رجع ياسر عرفات، الذي خرج في 1982 من بيروت، إلى طرابلس في شمال لبنان لمواجهة «الانتفاضة» في «فتح»، وعملياً للدخول في مواجهة مع سوريا. لماذا رجع؟ وما هي قصة زيارة ياسر عبد ربه مع محمود درويش لياسر عرفات في الشمال؟ يتذكر عبد ربه قائلاً: «كانت هناك نظرية سورية فيما بعد بأن ياسر عرفات الداهية هو الذي جاء إلى طرابلس من أجل استدراج السوريين لشن معركة ضده حتى يوصم أبو موسى وأبو خالد العملة وأبو صالح بأن حركتهم ليست حركة تصحيح، ولكنها حركة مدبرة سورياً، وأنه قد نجح إلى حد كبير في هذه العملية. هل كان ياسر عرفات فعلاً عنده مثل هذا المخطط في رأسه؟ أنا لا أستبعد من ياسر عرفات ذلك؛ لأنه كان يريد للاعبين الحقيقيين أن يظهروا على خشبة المسرح من دون أن يأتي أحد ويموّه بستارة فلسطينية أنه باسم الإصلاح في «فتح» قاموا بهذا التدبير. طبعاً خلال فترة حصاره، ذهبنا أنا ومحمود درويش.
محمود درويش ربما هو الذي حرضني وليس أنا من حرضه. محمود درويش كانت بينه وبين ياسر عرفات علاقة ملتبسة. هو يحب عرفات ويطمئن إليه، لكنه في الوقت ذاته يشك في أنه يرتكب مغامرات غير محسوبة أحياناً، ويتخذ قرارات غير قابلة للتراجع عنها. ويفضل عرفات المتردد أحياناً والذي يقوم بالشيء وبعكسه حتى يظل في الوسط من دون التورط الشديد. هو الذي حرضني، أنا متأكد، على الذهاب للقاء «أبو عمار». فذهبنا بالسيارة معنا سائق فقط. وعن طريق حمص (سوريا). ذهبنا ودخلنا إلى طرابلس. قبل طرابلس، إلى البداوي وتلك المناطق حيث يوجد ياسر عرفات من المنطقة الشمالية. وبالعودة نزلنا عن طريق بعلبك. كانت هناك سهولة في دخول لبنان وقتها.
دخلنا فوجدناه يشرف على عمليات الحفر في الجبل، والجبل كله طباشير (كلسي)، الجبل كله أبيض، حتى هو ثيابه بيضاء. المهم، «كيفك أبو عمار؟». قال: كما ترونني أنا أحضّر. سألنا: لماذا الخنادق والحفريات؟ لم نأخذ من عرفات جواباً نهائياً. قال: هذه ترتيبات عسكرية لا علاقة لكم أنتم بها ولا تفهمون في الشأن العسكري. جلسنا معه واطمأننا عليه. معنوياته لا بأس بها. كان ذلك في فترة الظهيرة، فقال: تتغدون معي. محمود درويش فيما يتعلق بالطعام حذر. فكان غداء ياسر عرفات علبتي سردين وحبتين من الطماطم. نظرت إلى وجه محمود درويش فلم يكن راضياً.
شارك درويش بالحد الأدنى. أكل قليلاً من الخبز. بعد ذلك طلبنا منه الإذن بالانصراف لنعود إلى الشام (دمشق) قبل مغيب الشمس ورجعنا عن طريق البقاع».
وهل كانت «حرب المخيمات» في لبنان جزءاً من الرد على سلوك ياسر عرفات؟ يقول عبد ربه: «كان واضحاً أن حركة (أمل) حرّكتها بإيعاز سوري، بتدبير سوري. وكانت ناتجة عن توسع دور «فتح» في الجنوب، وأيضاً تمدد إلى حد ما في مناطق الجبل بتواطؤ ضمني مع وليد جنبلاط الذي كان يمرر كثيراً من المساعدات ويؤوي أيضاً معسكراً على الأقل لـ«فتح»، على ما أذكر، وحركتهم في كل الاتجاهات عبر منطقة الشوف.
كان السوريون يعرفون ذلك، أن «فتح» تتمدد في الجنوب، فأوعزوا إلى «أمل» بأن تقوم بذلك، فتورطت «أمل» بحرب عديمة المعنى والجدوى. محاصرة المخيمات مثل مخيم شاتيلا أو غيره من المخيمات، ولاحقاً تم الرد عليها بعملية مغدوشة، وكانت أيضاً بذات الدرجة من البشاعة.
القسوة ضد عرفات «متوارثة» سورياً
هل صحيح أن رئيس أركان الجيش السوري العماد حكمت الشهابي كان شديد القسوة في الكلام عن ياسر عرفات؟ يجيب عبد ربه: «كان يبدو الموقف متوارثاً في قيادات الجيش السوري. مصطفى طلاس لم يكن يحب ياسر عرفات، وفي أحيان كان في بعض خطبه بذيئاً للغاية ويشتمه بشتائم سوقية ورخيصة، وحكمت الشهابي كان لا يطيق اسم عرفات أبداً. كان يجاهر بذلك أمامنا».
وعن صبري البنا «أبو نضال» وشخصيته، يقول عبد ربه: «التقيته في المرحلة العراقية عندما كان في بغداد، وبعدها لم أره. هو شخص نرجسي للغاية، معتز بنفسه وشديد الشكوك. يتلفت حوله أحياناً، وسريع الاتهام. إذا ذكرت اسم أحد أمامه يقول لك فوراً: هذا جاسوس. ربما هو تأثر بالتقاليد العراقية السياسية لأن تهمة الجاسوس في العراق مثل شربة الماء. هو لا يشعرك بالارتياح، رغم أنه في أوقات أخرى، كأنه كان عنده حالة انفصام فعلياً، تجده شخصاً هادئاً ولطيف المعشر، وفي وقت قصير ينقلب إلى نقيضه.
سبح أبو نضال في الدم الفلسطيني كثيراً كثيراً. وكان هذا عندما حصل التقارب السوري – الفلسطيني، بعد حرب أكتوبر وبعد ما صار هناك مشروع للسلام، وبعدما أعلنا عن خطة النقاط العشرة التي هي أول جنين لمشروع قبول دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة. فهذا كان بالنسبة للعراقيين ناقوس خطر، فبدأوا بالعمل ضد منظمة التحرير وضد «فتح»، ولجأوا لسياسة الاغتيالات. في الكويت اغتالوا السفير، في باريس اغتالوا السفير، في أماكن كثيرة».
القذافي وجاذبية عرفات
هل كان التفاهم بين ياسر عرفات ومعمر القذافي صعباً؟ يجيب عبد ربه: «صعب وسهل. القذافي كان شديد الترحاب بياسر عرفات، وكان ودياً في التعامل معه، وياسر عرفات يجرؤ على أن يحكي معه بلغة فيها بعض القسوة أو التأنيب، حتى إنه كان يناديه: يا معمر. ولم يكن يجرؤ على قول هذا الكلام لصدام أو لحافظ الأسد أو السادات أو سواهم. كان يقول له مثلاً: يا معمر أنت رايح فين؟ أنت غلطان. نعم. كان يقول له: أنت غلطان، وكان ينتقده أحياناً.
القذافي كان يتقبل ذلك كله؛ لأن «أبو عمار» كان يعدّ نفسه ليس فقط أقدم عمراً بل أقدم من حيث تاريخه النضالي، أقدم كثيراً من القذافي. القذافي ضابط صغير برتبة ملازم أو نقيب… «أبو عمار» لم يكن يعطي للقذافي درجة من الأهمية بسبب أن القذافي كان شحيحاً جداً في دعم «فتح» ودعم «منظمة التحرير». لم يكن يدعم المنظمة، بل كان يدعم تنظيمات وفصائل، ويختص بالدعم أحمد جبريل الذي كما يقول المصريون «أكل بعقله حلاوة». أوهم القذافي بأنه قائد عسكري من الطراز الرفيع.
عرفات كان مشاكساً في علاقته بالقذافي. والقذافي كان مضطراً لأنْ يحترمه ويعامله باحترام. طبعاً قام لاحقاً بتمويل (تمرد فصيل) «الانتفاضة» في «فتح» ضد عرفات. كانت لدى عرفات كاريزما، حقيقة، طاغية إلى حد بعيد. هناك من لم يكن يحتملها. أنا متأكد. حافظ الأسد لم يكن يحتملها. أحمد حسن البكر وكان أيضاً لا يطيق عرفات. صدام ربما لم يكن يشعر بمنافسة مع أحد؛ لأنه هو مقتنع بداخله أنه هو منذ نعومة أظفاره متفوق على كل البشرية. القذافي كان أيضاً يغار. تحس أن لديه بعض الغيرة، لكنه كان مضطراً أن يعامل ياسر عرفات باحترام».
هل كانت لدى عدد من الانقلابيين العرب عقدة جمال عبد الناصر؟ يقول عبد ربه: «نعم، هذه موجودة. في الحقيقة، عبد الناصر هو الذي افتتح عهد الضباط الذين يتحولون إلى رموز شعبوية في بلدانهم وعلى المستوى العربي. فكل منهم، حتى الذين ينتقدون، فيهم جزء من خطابية عبد الناصر، مفردات عبد الناصر، فردية عبد الناصر. ربما عبد الناصر كانت عنده مزايا يعني أخرى إيجابية، هنا صعب أن يكون أحد قد تشبّه بها، ربما. لكن عبد الناصر كان نموذجاً للديكتاتور العسكري العربي. والنسخ هي نسخ مشوهة عنه. بالنسبة إلى القذافي كان عبد الناصر، أصلاً، رمزه الأبوي، إن صح التعبير في إطار علم النفس. احتضنه عبد الناصر وشجعه واحتواه».
«غزة كانت مقدسة عند عرفات»
التقى عبد ربه بعرفات للمرة الأولى في «معركة الكرامة» عام 1968 في الأردن، وهي المعركة التي أعطت الشرعية لـ«فتح» ولعرفات. سألته: هل تفتقد ياسر عرفات اليوم؟، فأجاب عبد ربه: «أكيد، أكيد. لا أحد عرف ياسر عرفات، وبدرجات مختلفة وهم بعدد محدود، إلا ويفتقد دوره، ويتذكر كيف كان يتصرف في هذا الوقت. حتى مؤخراً، هناك من يؤكد أن ياسر عرفات ما كان ليسمح بكل المقدمات التي أوصلت إلى العدوان الأخير على غزة.
ما كان ممكناً أن يسمح بأن يحصل هذا الانقسام الذي وقع في الحركة الفلسطينية وخروج «حماس» عن بقية الأطراف وعن منظمة التحرير، ثم انفصال غزة عن الضفة. ياسر عرفات غزة كانت بالنسبة إليه مقدسة، وما كان ممكناً أن يغادر غزة ولو نفذت «حماس» مائة انقلاب. ليس بالضرورة أن يغزو غزة لكنه مستعد أن يدفع الثمن لـ«حماس» مقابل أن يضع قدمه في غزة مرة أخرى».
سألت عبد ربه كيف خرج من الأردن بعد الأحداث الدامية في 1970 فقال: «خرجت في 1971؛ إذ ظللنا في حالة اختفاء في عمّان بعدما سيطر عليها الجيش الأردني. ثم انتقلت إلى الأحراش في جرش وعجلون التي تجمعت فيها كل قوات المقاومة و(تعرضت) للقصف وإلى آخره. ثم عقد اجتماع للمجلس الوطني في يوليو (تموز) أو أغسطس (آب)، فطلبوا منا، أنا و«أبو جهاد» (خليل الوزير)، أن نغادر أحراش جرش وعجلون ونذهب إلى القاهرة لنحضر المجلس الوطني، فغادرنا برعاية عربية، وحصل اكتساح أحراش جرش وعجلون ونحن في القاهرة».
حقائق
من هو ياسر عبد ربه؟
ولد ياسر عبد ربه في يافا في 1945. هاجرت عائلته بعد النكبة إلى لبنان. كان في سن الخامسة عشرة حين نجح السياسي اليساري اللبناني محسن إبراهيم في إقناعه بالانضمام إلى «حركة القوميين العرب». تابع في الجامعة الأميركية في القاهرة دراسته في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية.
في 1968 كان إلى جانب جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد في تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وشارك في السنة التالية في تأسيس «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» وهو كان الرجل الثاني فيها بعد حواتمة. غادر الجبهة عام 1990 وأسس حزب «فدا»، قبل أن يتخلى عن قيادته ويعمل مستقلاً منذ 2004.
كان لقاؤه الأول مع ياسر عرفات في 1968 إبان «معركة الكرامة» حين تصدت المنظات الفلسطينية الناشئة بدعم من مدفعية الجيش الأردني لقوات إسرائيلية هاجمت بلدة الكرامة الحدودية. ربطته لاحقاً بعرفات علاقة ثقة وطيدة مكنته من لعب دور بارز في الحوار بين أميركا ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ترأس عبد ربه الجانب الفلسطيني في أول حوار مع الولايات المتحدة عام 1989، وكان شريكاً فاعلاً في ما عُرف بـ«مطبخ اتفاق أوسلو». وتولى بعد ذهاب القيادة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة مناصب وزارية. وشارك في معظم لقاءات عرفات مع كبار المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين.
تولى بين 2005 و2015 منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأخرج من منصبه في ختام تلك الفترة بعد خلافات علنية مع الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس. أتاح له دوره في منظمة التحرير المشاركة في لقاءات رفيعة مع زعماء من العالم العربي وخارجه. وربطته علاقة مودة عميقة مع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.
متزوج من الروائية ليانة بدر، وله ولدان.