هل هي نوستالجيا إلى زمن يبدو جميلاً مقارنة بالواقع؟ أم هو حنين لذكريات الصبا والبراءة؟ أم هي بحث عن الهوية ورغبة في تعزيز الانتماء للبلد الأم؟ أسئلة كثيرة أثارت الانتباه في موسم «الهوت كوتور» لربيع وصيف 2024. أخذت هذه الـ«نوستالجيا» وجوهاً متنوعة، لكنها تصب في النبع نفسه، ألا وهو الشرق والمغرب الأقصى.
اللافت فيها أنها لم تداعب مخيلة العرب فحسب، بل أيضاً مخيلة عدد من المصممين الأجانب، نهلوا من هذا النبع متوغلين في عُمق الصحراء الأفريقية أحياناً، مثل ستيفان رولان الذي يبدو وكأنه يتقفى أثر الراحل إيف سان لوران في مراكش والصحراء، مستعيراً ألوان الكثبان الذهبية والأزرق اللذين تشتهر بهما قبائل الطوارق، وكذلك حدائق ماجوريل التي ترتبط بالراحل سان لوران وبيته في مراكش. المصممة ديليك حنيف هي الأخرى صوّبت أنظارها نحو الشرق وتحديداً تركيا، مسقط رأسها؛ لتأخذ من تاريخها وتراثها، مفردات مزجتها بأسلوب أندلسي – مغربي. وكانت النتيجة قِطعاً تستوحي خطوطها من القفطان المغربي وتطريزاته نسقتها مع طرابيش الدراويش والسلاطين.
بيد أن هذه النوستالجيا ظهرت أكثر في عروض المصممين العرب. إيلي صعب توجّه إلى مراكش وجورج حبيقة إلى بيروت الستينات، وزهير مراد إلى لبنان في عهدها الفينيقي، وسارة الشرايبي إلى جبال الأطلس، وهكذا. هذه الأخيرة أطلقت على تشكيلتها عنوان «الأرض» لتؤكد لنا أهمية التمسك بالجذور. وعن غير قصد سلّطت الضوء على موجة تشهدها أوروبا حالياً تتمثل في شبه هجرة عكسية لجيل وُلد في المهجر، لكن ظل معلَّقاً لا يعرف أين يُرسخ أقدامه ويحلم بأرض أجداده.
الفرق بين المصممين الأجانب والعرب، أنه بينما يستند هؤلاء إلى المخيلة ونظرتها الرومانسية إلى الشرق، فإن العرب يتكئون على ذكريات الطفولة والشباب وتاريخ حافل من البطولات. والمقصود هنا، أن هذه العلاقة شخصية أكثر. ما يلفت النظر فيها أنها تؤكد أن المصممين العرب تحديداً اتفقوا أخيراً أن يتفقوا، من خلال تخاطر الأفكار ولقاء المشاعر. المتتبع لمسيرتهم منذ ثمانينات القرن الماضي إلى عهد قريب، يلفته أنهم خرجوا هذه المرة عن السيناريو الذي بدأوا به رحلتهم إلى العالمية. حينها كانوا يركزون على لغة الغرب في تصاميمهم وعروضهم على حد سواء. كانت هذه اللغة مفروضة عليهم؛ حتى ينجحوا في التواصل مع الآخر، ويقنعوه بمهاراتهم في وقت كانت في المنطقة العربية تستهلك أكثر مما تُنتج أو تُبدع.
المصمم السعودي العالمي محمد آشي شرح هذه النقطة في أحد لقاءاته السابقة مع الـ«الشرق الأوسط» قائلاً إنه كان متحفِظاً بعض الشيء عندما كان الأمر يتعلق بالخوض في جذوره. كان الدافع رغبةً تسكن أي مصمم في بداياته، في أن يفرض اسمه في الساحة العالمية. يشرح: «النظرة العامة إلى المصممين العرب آنذاك لم تكن تُشجع على فتح هذا الباب والخوض فيه بإسهاب».
لكن شتان بين الأمس واليوم. فقد تغيَّر المشهد تماماً في السنوات القليلة الأخيرة. هناك اعتزاز بالهوية اجتاح العالم العربي ككل. انفتاح المملكة العربية السعودية كان له دور مهم في فرض منطقة الشرق الأوسط كقوة لا يستهان بها على المستوى العالمي. كل المصممين وبيوت الأزياء العالمية تتمنى رضاها وتتودد إليها. المغرب الأقصى هو الآخر يشهد حركة ديناميكية ملموسة تجعل المهاجرين الذين غادروه إلى أوروبا في الستينات والسبعينات بحثاً عن فرص العمل وحياة أفضل، يفكرون جدياً في العودة. ازدواجية المعايير السياسية والمصاعب الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا وتنامي السياسات الشعبوية قضت على أحلامهم وجعلتهم يعيدون التفكير في مفهوم الهوية والانتماء بمنظور جديد.
سواء كان السبب هذا أو ذاك أو مجرد تخاطر أفكار في اللاوعي، فإن المصممين العرب ترجموا هذه الموجة في أسبوع باريس للأزياء الراقية الأخير، بعروض تستدعي العاطفة والاعتزاز بالهوية. استعملوا كل العناصر التي من شأنها أن تحقق ذلك، وعلى رأسها الموسيقى. فهي أكثر ما ينجح في نقل المشاعر وتعزيز مشاعر «النوستالجيا». حتى ستيفان رولان، الذي يحب أن يصف نفسه بالمصمم المستشرق، استعان بالعازف إبراهيم معلوف ليرافق ببوقه العارضات على منصة «صحراوية». أما المصممة المغربية سارة الشرايبي، فاستعانت بصوت المغنية التونسية آمال المثلوثي، وجورج حبيقة بكل من فيروز وأم كلثوم.
يقول المصمم جورج حبيقة عن تشكيلته: إنها «الأولى من نوعها بالنسبة لي… لأنها مستلهمة من العالم العربي. حرصت فيها على أن أُبرز كل ما يكتنزه عالمنا من جمال وثقافة وحب وإنسانية تلمسها في كل بلد عربي تزوره». يعود حبيقة بمخيلته إلى بيروت في الخمسينات والستينات والسبعينات، عندما كانت الحياة هنية وبسيطة. يستيقظ العرب على صوت فيروز وينامون على صوت «الست» أم كلثوم. كان هناك تفاؤل بالمستقبل، وهو ما جسده المصمم في خطوط عصرية محددة على الجسم وألوان متوهجة وتفاصيل أنيقة ومُبهجة مثل الورود التي ترتبط بالمنطقة وطاولة لعب الزهر وغيرها. تخايلت بها العارضات على نغمات أغنية «اعطني الناي لأغني» لفيروز، ثم أغنية «ألف ليلة وليلة» لأم كلثوم. بتسريحاتهن الكلاسيكية والمنمقة وماكياجهن المستوحى من الستينات يُخلفن الانطباع بأنهن متوجهات إلى حفلة، وما أكثر الحفلات في ذلك الوقت. فالستينات كانت حقبة فارقة بالنسبة للمرأة. انطلقت فيها شرارة تحررها ودخولها ميادين عمل كانت حكراً على الرجل. هذه الحركات النسوية العالمية لم تؤثر على اهتمام المرأة العربية بأناقتها.
هذه الروح التواقة للحياة، بكل أشكالها، لم تظهر في ألوان تتباين بين الأحمر، والأخضر، والوردي، والبنفسجي والأزرق فحسب، بل امتدت إلى إكسسوارات مبتكرة مثل أقراط أذن على شكل فنجان قهوة، في إشارة إلى أهمية قهوة الصباح العربية في المشرق. لتعزيز هذه الصورة، استعمل بقاياها التي تترسب في قعر الفنجان في نقشات وزخارف طبعت بعض القطع. الأنسجة التقليدية ذات الطابع الشرقي التي تستعمل في السجاد أو على الكنبات كانت أيضاً حاضرة في تنورات بشراشيب مطبوعة بالورود وصور الحلي العربية والهندسة المعمارية.
بالنسبة للمصممة سارة الشرايبي، فإن لا شيء يشد الإنسان إلى الأرض ويجعله يلتحم بها أكثر من مأساة طبيعية. الزلزال الذي تعرّض له المغرب في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي أظهر معادن الناس وأحيا روح الانتماء. فبقدر ما زعزع الزلزال جبال الأطلس، بقدر ما أيقظ روح الوطنية والإنسانية. لهذا لم تحلم الشرايبي ولم تشطح بخيالها إلى السماء أو النجوم أو الموتيفات الهندسية التي غلبت على تصاميمها من قبل. اختارت في المقابل «الأرض» لتكون تيمتها وعنواناً لثالث مشاركة لها كضيفة في أسبوع «الأزياء الراقية» الباريسي.
أرادت أن يُعبّر كل ما في العرض عن «ارتباط المرء بوطنه الأم… ألوانه، ترابه وروائحه» وفق قولها. تشققات هذه الأرض ومنحنياتها، إلى جانب ألوان مدينة مراكش الحمراء وألوان الرمال والكثبان والأزرق المطفي كانت العناصر التي لعبت عليها، من دون أن تتجاهل الحِرف اليدوية التي حمّلتها بمخزون غني من التقاليد أضفت عليها المصممة لمساتها العصرية. مثل جورج حبيقة وستيفان رولان وآخرين استعملت الموسيقى لتُخرج إلى السطح كل العواطف الجياشة التي كانت تعتمل بداخلها وهدفها أن تصيب الحضور بعدواها. وهذا ما حدث فعلاً وهم يستمعون إلى صوت الفنانة التونسية آمال المثلوثي وهي تصدح على الخلفية، فتزيد من درامية الحدث.
هذا الاحتفال بالصمود وروح المقاومة امتدت خيوطه إلى عرض زهير مراد، مع اختلاف في التفاصيل وأسلوب السرد. لم يحصُر المصمم نفسه في التاريخ القريب. بل توغّل إلى الحضارة الفينيقية ليستحضر لنا صور نساء مثل عشتروت وأليسار وتانيت. جسّد قوتهن من خلال الكثير من البريق والمعادن التي صاغها على شكل دروع تغطي كل الجسم تارة أحياناً. وفي حين كانت الصورة العامة لمحاربات يقاومن القُبح بالجمال والفوضى بالأناقة، فإن الحبكة السردية، ركّزت على الشغف الفينيقي بالبحر، حيث حاول المصمم اكتشاف «خبرة شعب قديم من الملاحين التجار، كانت مهمتهم تنصبّ على استكشاف العالم»، وفق ما جاء في البيان الصحافي.
كانت مدينة صور هي الوجهة التي تخيَّلها. استعار منها زخرفات معدنية بتدرجات ألوان الزجاج القزحي، وهي مادة شرح أنها اكتُشفت بحسب الأسطورة، من بين بقايا حريق اندلع ليلاً على رمال صور «هذه المدينة التي صمدت لمدة سبعة أشهر في وجه حصار الإسكندر الأكبر، وباتت ترمز إلى لبنان المعاصر، حيث الجمال هو عمل من أعمال المقاومة والصمود».
وهكذا تناغمت في تشكيلته الثنيات وطيات الأقمشة مع زخرفات بأسلوب الأرابيسك طرزت على الموسلين والكريب واللوريكس البراق لتخلق تماوجاً يستحضر حركة البحار وتمايل السفن. كانت القطع عصرية بتفصيلها وخطوطها المحددة تخاطب كل لغات العالم، لكن التفاصيل التي قد تظهر في فستان مستوحى من الكيمونو مصنوع من الساتان العاجي بأطراف مزينة ببلورات تشبه رذاذ البحر، أو في فستان على شكل عباءة وآخر مزين بنقشات من فن الفسيفساء، فشدّت التشكيلة ككل إلى الجذور… بالسلاسل.