بعض لحظات الحياة لا تُنسى، منها أن تُمعن النظر وأنت تتسلّق جبال قرية «مدركة»، وتسير تحت ظلال أشجارها من النخيل والدوم، على مساحة 14 كيلومتراً في قرية ليست كسائر القرى، وأنت تشهق وتقبض بجوارحك على جميع الحكايات المؤرَّخة، لتدخُل أفكارك في صراع مع نبضات قلبك المتسارعة، وتحار أيهما يلجم جموح الذهول، وأنت تسمع أنّ أول مَن أقام في هذه القرية الواقعة شرق شمالي مكة المكرمة، كان النبي شيث بن آدم.
تريَّث في العبور، ولا تغادر المكان إلا وقد دوّنت اسمك في زواياه، فما أُتيح لك اليوم قد لا يُتاح غداً. أطلق شغفك، وبعثِر في الاتجاهات الأربعة أسئلة الأماكن، وامسح من ذاكرتك ما يكفي لتخزين روايات التاريخ عن «مدركة» التي مرَّ بها «ذو القرنين»، وكانت حاضرة في العصر الآشوري (911 – 612 قبل الميلاد) تحت اسم «مدركاتو». آنذاك، كان يحكمها الأمير العربي شلمنصر (858 – 824 قبل الميلاد)، ووجدت لها مكاناً في التاريخ اليوناني الذي أشار إلى أنها منطقة غنية اقتصادياً، وذات نفوذ كبير لقبائل العرب.
زاد من جماليات «مدركة» اختلاف روايات المؤرّخين حول تسميتها. فمنهم من ذهب إلى واقعة عمرو بن مضر بن إلياس، الذي أدرك إبله من القوم وجالدهم عليها بقتلهم، وسُمّي الموقع الذي وقع فيه القتال «مدركة»، وحمل عمرو بن إلياس هذا الاسم اعتزازاً لقتاله المجموعة واسترداد إبله. أما المؤلّف ياقوت الحموي، فذهب إلى أنّ أول مَن سكنها قريش الظواهر؛ وفي الحالتين يؤكد المؤرخون قِدم القرية الموغلة في التاريخ، خصوصاً أنّ هذه الواقعة تتوافق مع المعجم اللغوي، وتعني «أدرك»؛ أي اللحاق والتمكن من الشيء أو إدراك سعة الاطّلاع.
ودخلت «مدركة» الإسلام في السنة السابعة للهجرة، عندما زار وفد من أهلها المدينة المنوّرة لمبايعة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لتحتضن القرية لاحقاً مسجد «الخطاب» الذي يُنسَب بناؤه إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لدى عودته من الحج.
«مدركة» لم تغطّ على صفحات التاريخ فحسب، بل ظلّت شامخة تُدوّن اسمها في كتب لا تنتهي صفحاتها. فالمنطقة سلسلة جبلية تضيق وتتّسع في مواقع عدة، تتخلّلها أودية وشعاب، تتحدّر من الشرق إلى الغرب، وجبال ومرتفعات جنوباً وغرباً، وحرّات (جمع حرّة، وهي ظاهرة جغرافية يكتسي فيها سطح الأرض بالصخور النارية والطفح البركاني) شمالاً وشرقاً، وحوض خصيب وسط الأودية وأسفلها، ما يجعلها متنفّساً سياحياً للاستمتاع بغابات من الأشجار، ووادٍ يقسمها إلى نصفين، متعرّج ومنحنٍ في مواقع كثيرة.
تُعرف «مدركة» بعروس شمال مكة المكرمة، وتشتهر بسلّتها الزراعية والحيوانية، كما أنّ تضاريسها متنوّعة ما بين أرض مستوية، وتلال ومساحات زراعية، وجبال فسيحة بأودية جمة. وتحتوي على مناظر خلابة ومقوّمات اقتصادية ومرتكزات سياحية، يسهل الوصول إليها من طريق يسلكه الحجاج والمعتمرون والمصطافون. أضافت هذه الميزة للقرية بُعداً تجارياً وسياحياً، خصوصاً أنها تقع بين 3 محافظات كبرى، هي جدة، والطائف، ورابغ؛ ما يسهم في تدفّق أكبر للباحثين عن الجماليات والتاريخ.
في هذا السياق، يقول رئيس بلدية «مدركة» المهندس ياسين الذبياني، لـ«الشرق الأوسط»، إنّ البلدية تتولّى مهمّات عدّة تخدم سكان المنطقة، وتقدّم خدماتها المباشرة لتحسين نمط العيش، فتكون القرية وجهة للزائرين. ويوضح أنّ البلدية تخدم 3 مراكز، هي «مدركة»، و«رهاط»، و«القفيف»، تحظى باهتمام رسميّ كبير ضمن «رؤية المملكة 2030»، التي تركز على بناء مجتمع حيوي يعتزّ بتاريخه وجذوره، واقتصاد مزدهر ينعكس على المواطنين.
ويلفت إلى أنّ «مدركة» نالت دعماً كبيراً ومباشراً من حكومة خادم الحرمين الشريفين، ومنذ عهد المؤسِّس الأول الملك عبد العزيز، الذي أسَّس أول إمارة فيها عام 1344 هجرية للبادية وقبائلها. من ذلك الحين وحتى اليوم، تشهد نقلات نوعية وتطويرية في جميع المسارات.
يتابع الذبياني الحديث عن «مدركة»: «ترتبط بأحداث تاريخية شهدتها القرية قبل آلاف السنين. وهي اكتسبت أهميتها مع هذه الأحداث، ضمن موقعها الجغرافي المهمّ في الوسط بين مكة المكرمة وجدة، إضافة إلى طبيعتها الخلّابة، ومناخها الجميل على مدار العام».
ومن المواقع المألوفة، «ماء الرجيع»، وهو مقر ماء تصبّ فيه 5 أودية، وقد شهد واقعة «الرجيع» في عهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويتميّز بجريان الماء على مدار العام. وهناك أيضاً «القرين الأبيض»، وهو جبل مرمر كبير يقع في حرّة «مدركة»، يُستخرج منه رخام الحرم المكي. إضافة إلى «قلات العتيبيات»، وهي أحواض صخرية عميقة تتجمع فيها المياه طوال العام، وتُعدّ مكاناً لتجمُّع القوافل على طريق مكة.
أما «عين النبي» الجارية حتى يومنا، فمصبُّها وادي المعلاه برهاط، وذُكر في كتب السير أنّ النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أقطعها لأحد الصحابة. كذلك «الحصاة الخطمية»، وهي صخرة نُحت في داخلها مكان للاستراحة على قُطر 4 أمتار تقريباً، مفتوح من 3 جهات، ومطلّ على وادي علق.
وإن أنهيت الجولة، فيلزم عليك التوجّه نحو وادٍ بحرة رهاط، «أبو حماط»، وهي عين جارية على مدار العام يحيط بها شجر الحماط والحبق، وتكثر من حولها النقوش الأثرية القديمة.