قبل 45 عاماً، كانت مادونا لويز تشيكوني تسير في شوارع نيويورك وفي جيبها 35 دولاراً. لا مال، لا طعام، لا مسكن… كل ما في حوزتها موهبةٌ وطموحٌ كبيران.
أسبابٌ كثيرة تستدعي الاحتفال بأربعة عقودٍ من الانتصارات الفنية والشخصية. فها هي مادونا، في الـ65 من عمرها، تستهلّ جولةً عالميّة هي الثانية عشرة في مسيرتها والأولى منذ عام 2020. تحت عنوان «Celebration Tour» (جولة الاحتفال)، تتنقّل الفنانة بين القارّتين الأوروبية والأميركية، لتحيي 78 حفلاً في 14 بلداً على مدى 6 أشهر.
«I Will Survive»
افتتحت «ملكة البوب» جولتها في لندن في 14 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، على أن تختتمها في مكسيكو في 24 أبريل (نيسان) 2024، لكن لا ضمانات حول ما إذا كانت مادونا ستستطيع أن تلتزم بمواعيدها كلها، فهذه الجولة تختلف عن سابقاتها؛ لأنّ المغنية الأميركية اختبرت أخيراً أزمةً صحية مقلقة، ما زالت تلقي بظلالها على معنويّاتها والعروض.
خلال حفلها في بلجيكا قبل أيام، أقرّت النجمة العالميّة أمام الجمهور بأنها ليست بأفضل حال. كما بدت على درجة عالية من الحساسية، حين قالت إنّ ظروفها الصحية أعادت إلى ذاكرتها صورة والدتها وهي تمضي أيامها الأخيرة على سرير المستشفى وحيدةً، قبل أن يخطفها مرض السرطان في الـ33 من العمر.
Madonna put on an incredible show last night. She said she wasn’t feeling well. It’s hard not to wonder if she’s really not well though, pushing through with the tour so soon after her illness. I hope she and her business people are taking good care of her. pic.twitter.com/FtboL4oqwD
— andie dyer (@dyerAndie) October 22, 2023
عمداً استعادت مادونا أغنية غلوريا غاينور الشهيرة «I Will Survive» (سوف أحيا)، لتجاهر أمام الملايين بأنّ المرض لن يعترض طريق شغفها. أما عن الأسباب التي دفعتها إلى التشبّث بالحياة بعد إصابتها بعدوى بكتيريّة خطرة في يونيو (حزيران) المنصرم ودخولها العناية الفائقة لأيّام، فقالت خلال حفل لندن: «لم أعتقد أنني سوف أنجو». وتابعت الفنانة العالميّة متوجّهةً إلى جمهورها: «لقد نسيتُ 5 أيامٍ من حياتي، أو من موتي. إذا أردتم أن تعرفوا كيف تغلّبت على المرض ونجوت، فهذا لأنني فكرت بأولادي وبوجوب أن أعيش من أجلهم. هم ينقذونني في كل مرة».
مادونا امرأةٌ لا تخجل بندوبها. صعدت إلى الخشبة والدعامات تلفّ ركبتَيها، لكنها رقصت وقدّمت 40 أغنية، بعد 4 أشهر فقط على استشفائها الطارئ، حتى إنها حلّقت على رافعة فوق الجماهير المحتشدة بالآلاف، خلال تقديمها أغنية «Ray of Light» (شعاع ضوء). أما ضوؤها هي، فاستمدّته من أولادها الذين رافقوها على المسرح، كلٌّ على طريقته.
لحظات عائليّة مؤثّرة
ربّما اعتقد البعض أن إطلالة أولادها هي من باب الموضة الرائجة، بأن يرافق أبناء المشاهير آباءهم وأمهاتهم على المسرح، كما حصل مع بيونسيه وابنتها بلو آيفي خلال الجولة الأخيرة، غير أنّ الأمر أعمق من ذلك، فمشاركة خمسةٍ من أولاد مادونا الستة في العرض، ما هي إلا صدى لكلامها عن أنهم السبب في نجاتها من الموت.
وقد انعكس ذلك لحظاتٍ مؤثّرة عندما غنّت «Mother and Father» (أمّ وأب)، وابنُها ديفيد باندا (18 سنة) يرافقها على الغيتار، في حين صورُ والدَيها تعبر خلفهما على الشاشة، إضافةً إلى صور والدة ديفيد التي توفّيت قبل شهور من تبنّي مادونا له في ملاوي، وهو كان حينها في سنته الأولى.
وعندما جلست ميرسي جايمس (17 سنة) إلى البيانو لترافق والدتها في أغنية «Bad Girl» (فتاة سيّئة)، بدا التأثّر واضحاً كذلك على الأمّ وابنتها بالتبنّي، ثم بدأ توافُد كلٍّ من لورديس (27 سنة) والتوأم المتبنّى ستيللا وإستير (11 سنة) ليضفن جواً من المرَح من خلال رقصاتهنّ على نغمات «Don’t Tell Me» (لا تقل لي)، و«Vogue» (فوغ).
على إيقاع «النوستالجيا»
لا تقتصر اللحظات المؤثّرة في جولة مادونا العالميّة على إطلالاتها إلى جانب أولادها. فللمرة الأولى، تستفيض النجمة في النوستالجيا، وهي المعروفة بالصلابة والحداثة وبنظرتها إلى الأمام. اختارت أغاني من حقباتها الموسيقيّة كافةً، وأعادت تصميم 17 زياً من الأزياء التي ظهرت فيها ماضياً، وتوقّفت مطوّلاً عند بداياتها حيث الفقر والجوع والتشرّد، لتعلّق: «أنا متفاجئة حقاً بأنني وصلت إلى هنا».
مزيدٌ من الدموع عندما غنّت «Live to Tell» (عشتُ لأروي)، وخلفها صورٌ بالأسود والأبيض لعشرات الأصدقاء والزملاء الذين خسرتهم بسبب مرض «الإيدز». ولم تنسَ مادونا أن توجّه تحيةً غنائية لأترابها في عالم موسيقى «البوب» الذين رحلوا عن الدنيا، أمثال مايكل جاكسون، وشينيد أوكونر، وبرينس.
في مقابل المشاعر، تحمل الجولة تذكيراً بالتحدّيات التي كان على مادونا مواجهتها خلال مسيرتها. من الرقابة، إلى النقد الهدّام ومحاولات الإسكات، وصولاً إلى مرور الزمن وتعرّضها للتنمّر والتمييز بسبب سنّها وتراجع قدراتها الجسديّة. تقف مادونا في جولتها الاحتفاليّة هذه، بوجه الذكوريّة وفي صفّ كل امرأة تعرّضت للتجريح بسبب تقدّمها في العمر.
نجمة «غينيس»
رغم سنواتها الـ65 وجراح الجسد التي تفوق عدد السنوات، تُثبت مادونا مرةً جديدة، أنها ما زالت تلك الظاهرة الثقافية والاجتماعية التي غيّرت وجه موسيقى البوب بجرأتها وطليعيّتها. ليس من باب الصُّدفة إذاً أن تنفد أكثر من 600 ألف بطاقة لجولتها، في اليوم الأول من بدء المبيعات. أما مع نهاية شهر يونيو، فكانت المبيعات قد تخطّت مليوناً و200 ألف تذكرة.
منذ 45 عاماً، وبينما كانت تحاول أن تشقّ طريقها الفنّي بصعوبة في نيويورك، كان يأمرها والدها بالعودة فوراً إلى البيت في ولاية ميتشيغان، لكنها لم ترضخ على قاعدة: «إنني لا أترك ما بدأت به ولا أستسلم»، وفق تعبيرها. وليست الجولة العالمية الجديدة سوى تأكيدٍ على أنّ مادونا لا تعرف الاستسلام.
ربما لم تعد «ملكة البوب» تتصدّر أرقام الاستماعات، لكنها ما زالت حتماً تجمع حولها مئات الآلاف المتعطّشين لإطلالة فنانةٍ، لم تملّ يوماً من إعادة ابتكار نفسها. وليس من باب الصدفة أن تتوّجها «غينيس» من جديد: أكثر فنانة مبيعاً في العالم.