كيف يؤثر القرار الأوروبي بـ«حوكمة» الذكاء الاصطناعي على الإعلام؟


مراسلو جنوب لبنان لـ«الشرق الأوسط»: نغطي حرباً بلا قواعد اشتباك

لا يُحسد مراسلو الحرب على المهمة الصحافية التي يقومون بها أثناء تغطيتهم اشتباكات جنوب لبنان إثر اندلاع حرب غزة. فهم ومنذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) اتخذت حياتهم منحى آخر يميل أكثر نحو خطر الموت. وتوسعت هذه الفرضية إثر استشهاد زميلهم في وكالة «رويترز» عصام عبد الله، ولاحقاً المراسلة فرح عمر والمصوّر ربيع المعماري، كما ازداد الأمر تعقيداً مع قرار وكالات الأنباء الأجنبية الانسحاب من أرض المعركة.

المصورون والمراسلون لن ينسوا لكن لن يسمحوا بخسارة أي فرد من أفرادهم، لا سيما أن استشهاد أي إعلامي، صحافياً كان أم مصوراً، يشكل لزملاء المهنة صدمة عارمة. ومن جهة ثانية، تراهم الآن يدركون أن الغطاء الدولي الذي كانوا يظنونه متوفراً للجسم الإعلامي ولّى. إذ تبين للجميع أن الجيش الإسرائيلي لا يلتزم بالقواعد العالمية للحرب، ولا يفرّق بين صحافي أو عسكري، ولا بين مستشفى ومركز قتال. ذلك أنه ضرب عرض الحائط كل هذه القواعد، ما جعل مهمة الصحافي المراسل والمصور محفوفة بالأخطار.

مجموعة من هؤلاء المراسلين التقتهم «الشرق الأوسط»، وتعرفت إلى نمط حياتهم وطبيعة مهماتهم خلال تغطيتهم اشتباكات الجنوب. بينهم من ترك عائلته وأولاده خلفه كأي جندي حرب، وبينهم المراسلة المرأة التي باتت أرض المعركة منزلها الثاني.

محمود شكر ونوال برّي (الشرق الأوسط)

شغف المهنة

السؤال البديهي الذي قد يطرحه أي شخص على أحد هؤلاء المراسلين هو «هل أنت مضطر للقيام بهذه المهمة الخطيرة؟»… خصوصاً وأن غالبية المراسلين تفرّغوا للإقامة في أرض الحرب منذ بدايتها، عيونهم الساهرة تتابع مجريات الأمور لحظة بلحظة. ثم أنهم حتى عندما يخلدون إلى النوم، يكون العدو وراءهم يراقبون تحركاته خوفاً من حصول مفاجأة ما، وبينهم من ينتمي إلى أرض الجنوب لأنها مسقط رأسه. إنهم أبطال من نوع آخر، يضعون حياتهم على كف عفريت من أجل شغف المهنة.

نيران غير صديقة

يقول إدمون ساسين، مراسل المؤسسة اللبنانية للإرسال «إل بي سي آي»، إنه قبل حرب غزة كان يغطي حرب أرمينيا وأذربيجان. وتجربته غنية بأخرى خاضها على مدى 12 سنة في هذا المضمار. وهو حالياً يقوم بتغطية الاشتباكات الساخنة الدائرة في جنوب لبنان مع إسرائيل.

كيف يصف إدمون مهمته هذه؟ فيجيب: «نحن اليوم نقف على خط التماس الأساسي لحرب تدور بين جنوب لبنان وشمال إسرائيل. الخطورة التي نواجهها كبيرة جداً. فالصواريخ والانفجارات تحيط بنا، والطائرات والمسيّرات الحربية تحوم فوق رؤوسنا. أي غلط وارد في حال أخطأ الطرف الآخر هدفه».

ثم يضيف: «عادةً في الحروب نعرف أين يجب أن نتموضع… إلا أن هذا يغيب في هذه الحرب. نحن الآن نمشي على خط الموت وليس على خط نار. وعندما حصلت عملية استشهاد الزميل عبد الله كنا نقف في وسط أرض المعركة، ولكن على مبعد من خط النار. وفجأة سقط صاروخ على هذه النقطة، وكنت على بعد أمتارٍ من فريق عبد الله. لقد شاهدنا الحادثة بأم العين، ولذا كانت صدمتنا كبيرة، وأدركنا بعدها أن مبدأ تحييد الصحافيين عند الإسرائيليين أمر غير متوفر بتاتاً».

كوابيس الطفولة عادت

أما نوال برّي، مراسلة تلفزيون «إم تي في»، فتقول لـ«الشرق الأوسط» إن التجربة الميدانية التي تعيشها اليوم ذكرتها بطفولتها. فهي ابنة الجنوب وقد عرفت ويلات الحرب وتأثرت بها. وتتابع نوال شارحة: «النوم هرب من عيني وعادت إليّ كوابيس حرب الجنوب عندما كنت طفلة. أنا أعيش اليوم مع فريق (إم تي في) على جبهة الحرب. قبل استشهاد الزميل عبد الله كنا نقوم بمهمتنا معتقدين أننا محيّدون كأي صحافي حرب… ولكن زمن ما بعد رحيل عصام ليس كما قبله. تغيّر أدائي وصرت أكثر حذراً… بعدما كنت أكثر اندفاعاً أتنقل بين بلدة وأخرى سعياً وراء الخبر». وتستطرد: «إن أسوأ ما يمكن أن نتعرّض له كمراسلين الآن هو العجز عن الانسحاب من نقطة اشتعلت فجأة… فنعلق في الوسط ونواجه خطر الموت ويغدو مصيرنا مجهولاً. صحيح الحس الصحافي يغلب على انفعالاتنا في لحظة الحدث… لكن الأهم تجنب التهور وتحاشي التفريط بسلامة الفريق».

دارين الحلوة (الشرق الأاوسط)

صدمة العمر

محمود شكر، مراسل قناة «العربية»، أكد أن مهمته، كما غيره من الزملاء، صعبة من دون شك، وأردف خلال حوار مع «الشرق الأوسط» موضحاً: «أنا هنا على الحدود الجنوبية للبنان منذ اندلاع حرب غزة. طبعاً نعرف تماماً ما ينتظرنا، وكيف نتحرك ونتنقل ونلحق بالخبر. كانت الأمور تدور في أفقها الطبيعي بالنسبة لمراسل ميداني. ولكن بعد استهداف عصام عبد الله تغيّر كل شيء. كان مع فريقه على بعد أمتار قليلة منّا. زارني في موقعي وألقى عليّ التحية ودلّني على الموقع الذي يقصده. كانوا تحت موقعنا مباشرة، وعندما أصيبوا راحوا يصرخون ويطلبون النجدة. لا يمكن أن أنسى هذا المشهد فقد أصبت بصدمة لن أنساها».

حب مهنة المصاعب

أما دارين الحلوة، مديرة مكتب وكالة «سكاي نيوز» في بيروت، فلديها تجربة لا تشبه تلك التي يعيشها زملاؤها. فهي تترك ولديها التوأم في البيت منذ أول أيام حرب غزة. ومع فريقها في جنوب لبنان تحاول أن تمدّ وكالتها بكل المستجدات على أرض المعركة. ثم أنها عملت من قبل مراسلة وتعرف تماماً طبيعة مهمتها الميدانية أثناء الحرب… ولكن في الحرب الحالية القواعد تغيرت.

تروي دارين لـ«الشرق الأوسط» قائلة: «تغيّرت تحركاتنا تماماً بعد مقتل الزميل عصام عبد الله. لا أجد أن هناك ما يستأهل خسارة واحد من أفراد فريقي. نحن نقيم اليوم في بلدتي جديدة مرجعيون وعين إبل بعيداً عن خطوط النار. وأحياناً أسأل نفسي عمّا يدفعني للقيام بهذه المهمة الخطيرة؟ ويأتيني الجواب الصريح إنه شغف الصحافة». وتتابع دارين الحلوة: «أشتاق لأن أشمّ رائحة أولادي وأغمرهم، وهم في المقابل يحاسبونني على غيابي عنهم. حادثة عصام عبد الله دفعتنا إلى إعادة حساباتنا، فمن الواضح أن أهداف العدو ليست عسكرية فقط. أولويّاتي اختلفت اليوم، فأنا لا أخاطر اليوم بفريقي ولا بنفسي لتصوير ما يحدث مكان القصف. والصورة إذا لم تشكّل إضافة مستحقّة فلا ضرورة للمجازفة من أجلها. فماذا يعني أن نصوّر منزلاً مهدّماً…أو قن دجاج محروقاً؟ المعلومة والتحليل لهما فائدتهما أيضاً. والصورة ليست أهم من حياتنا… إنه الجنون بحد ذاته في هذه الحرب والتجربة ثقيلة».

ولكن، من ناحيته، يؤكد مصوّر قناة «العربية» ماهر المرّ، أن الصورة أساسية في العمل الميداني. ويقول: «ما يكمل أهميتها رسالة المراسل، ولكن من دونها يبقى التقرير ناقصاً. والمكان الذي نوجد فيه يكشف على مواقع العسكر الإسرائيلي… وهكذا أستفيد من موقعنا وأنقل صورة حية عما يحصل. شغفي لمهنتي يحدثني مرات للاقتراب أكثر من مواقع ساخنة، ولكننا بتنا الآن نتوخى الحذر أكثر».

طريقة اختيار المراسلين

الخلطة باتت معروفة في عملية اختيار المحطة التلفزيونية أو الوكالة الإخبارية لمراسليها. إذ تؤخذ بعين الاعتبار عوامل مثل عمر تجربة كل منهم وتخصصهم في النقل الميداني المباشر. ثم أنه لا يُفرض على أي مراسل خوض التجربة إذا كان لا يستسيغها. وبالفعل، غالبية المراسلين الذين تحدثنا إليهم التحقوا بمهمتهم عن رغبة وتصميم.

أيام الاستراحة تكون قليلة لا تتعدى الأيام الثلاثة وهم يمضونها بقلق. وحسب نوال برّي: «لا أحب أن يفوتني أي مستجد على الساحة. بل إنني أشعر بالذنب عندما يعوضون بي زميلاً آخر، لذلك ترينني في أيام الاستراحة بعيدة عن الراحة الحقيقية».

للمراسل مصادره

رامز القاضي، مذيع الأخبار في تلفزيون «الجديد»، اختار شخصياً مهمته في الجنوب. ذلك هو ابن المنطقة ومتضلع من جغرافيتها. وسبق له أن غطى حرب الجنوب غير مرة… كما غيرها. وهو يرى أن ما يحصل في غزة راهناً لا يمكن مقارنته بما يحصل في الجنوب، ويشرح: «هناك حجم الموت والضحايا من الأطفال كبير جداً».

من جهة ثانية، مهمة المراسل الميداني محددة بنقل واقع يواكبه بمعلومات موثوقة. وهنا يشرح القاضي: «ليست مهمة المراسل التحليل، بل ربط المعطيات المتوافرة له على الأرض. الصورة تلعب دوراً من دون شك، والمصادر منبع المعلومات أيضاً». ويضيف: «مصادرنا معروفة، وهي تنحصر بـ(حزب الله)… كما أن تراكم الخبرات يسهم في النجاح في مهمات شبيهة. كنا نعتقد في البداية أن الإسرائيلي لن يقصف بالمباشر الصحافيين، لكننا كنا على خطأ، ولذا صار عندنا خوف من غدر العدو كونه لا يأخذ بمعايير السلامة العالمية. فكلمة (Press) المعلّقة على بزاتنا الميدانية الخاصة أو على مركبات النقل الخاصة بنا ما عادت تنفع».

ارتدادات نفسية

على صعيد آخر، تترك ارتدادات الحرب على المراسل نفسه آثارها السلبية، فهو من ناحية يعاني من عقدة الذنب كونه يترك وراءه أهله وعائلته وأولاده، ولا يحب الالتفات إلى الوراء كي لا يضعف… فيمشي بخطوات ثابتة ويلحق بشغف المهنة. لكنه من ناحية أخرى يعيش حالة نفسية صعبة لمشاهد قاسية يراها عن قرب. إن مشاهد مثل استشهاد زميل وإصابات خطرة، ونزوح مواطنين وتشتتهم تاركين بيوتهم وقراهم، واندلاع نيران هنا وقصف للطيران، وانفجارات على بعد أمتار منهم هناك… كلها تصيبهم في العمق ولا يلمسون غور جروحها إلا بعد انتهاء المهمة.

وهنا يعلّق إدمون ساسين: «على أصحاب المحطات ووكالات الأنباء الاهتمام بالصحة النفسية لمراسل الحرب. فمداراة تداعيات الحرب عليه يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. أنا شخصياً نجوت من موت محتّم نحو 5 مرات. صحيح أن شغفي بمهنتي ينسيني هذه الصور وأنا أقوم بالمهمة… ولكن مع الوقت تعود وتطفو آثار الحرب علينا لأن هذه الجروح تسكن أعماقنا».

ولنوال برّي رأيها أيضاً في الموضوع، فتقول: «هناك صراع قاسٍ نعيشه بين شغفنا لمهنتنا وبين عقدة الذنب تجاه أهلنا. فعندما استشهد زميلي عصام طلب مني والدي العودة إلى البيت. وخلال اتصالي معه عبر الهاتف دافعت عن مهمتي وناقشته… تركته حزيناً، وهو ما بقي يحزّ في نفسي وانعكس سلباً عليّ».

أما رامز القاضي فيقول: «نقطة ضعفي تتمثل بأمي وأبي. وعندما أتعرض إلى أي خطر أتصل بهما بسرعة لأطمئنهما. لكل منا مفهومه الخاص للحياة، لكني مقتنع بأن علينا ألا نجعل من الموت هاجساً عندنا، وإلا فإننا لن نتحرك من أماكننا… نحن معرّضون للرحيل في أي لحظة، وليس بسبب الحرب فقط».



المصدر

صالح علي

كاتب ومحرر صحفي

أجهزة «التعزيز الحسّي» لوقاية روّاد الفضاء من التشوّش المكاني

الأنصاري… مطارحات شاملة للمداولات الفكرية والثقافية (2 – 2)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *