أزمة المزارعين في فرنسا تضغط على الحكومة وتتجه إلى مزيد من التصعيد
من الهند، مروراً بباريس إلى السويد: لم يتوقف الرئيس الفرنسي سوى لفترة قصيرة في باريس لينطلق بعدها إلى السويد، في زيارة دولة ليومين، هي الأعلى بين الزيارات الرسمية.
وفي الهند كان إيمانويل ماكرون «ضيف الشرف» الوحيد في احتفالات «يوم الجمهورية الهندي» التي تخللها اجتماعان مع رئيس الوزراء ناريندرا مودي، تناولت توثيق وتعزيز العلاقات الاستراتيجية متنوعة الأشكال والقطاعات بين البلدين.
وفيما كان ماكرون يشارك في الاحتفالات، ويتنقل بين قصور الراجستان ونيودلهي، ويزور المعالم الأثرية، ويلتقي الشباب والفنانين والمثقفين، كان غابريال أتال، رئيس الحكومة الشاب الذي وصل إلى منصبه الجديد منذ ثلاثة أسابيع، يواجه أزمة اجتماعية – اقتصادية حادة، عنوانها حراك المزارعين الذين أغلقوا كثيراً من الطرقات بجراراتهم وآلياتهم الزراعية، ونزلوا إلى الساحات، ولم يترددوا في فرش مداخل مقرات المحافظات بالمهملات والقش، وها هم يهددون بفرض الحصار المحكم على العاصمة، بدءاً من الاثنين، ومنع وصول أي شحنة غذائية لداخلها.
«حصار» باريس
الأزمة المستجدة فاجأت أتال الذي ليس له أي صلة سابقة بالقطاع الزراعي. ولم يكف إعلانه عن جملة من التدابير، عشية يوم الجمعة من إحدى المزارع في جنوب غربي فرنسا، وإلى جانبه وزيرا الزراعة والبيئة لتهدئة غضب المزارعين.
ومشكلة أتال أن الحراك الراهن، إذا تواصل، سيغطي على الخطاب الذي سيلقيه يوم الاثنين في البرلمان ليعرض السياسة التي ينوي السير بها؛ بما في ذلك التدابير الإضافية الخاصة بالقطاع الزراعي.
ودعت النقابتان الرئيسيتان، وهما الفيدرالية الوطنية لنقابات المزارعين ونقابة المزارعين الشباب في بيان، أعضاءهما إلى التعبئة في المحافظات المحيطة بالعاصمة من أجل سد الطرقات، والتركيز على الطرقات السريعة المفضية إلى باريس.
وقال ماكسيم بويزار، المسؤول عن نقابة المزارعين الشباب، للقناة الإخبارية «بي إف إم» إن ما يريدونه هو «منع وصول أي شاحنة لتزويد باريس بالمواد الغذائية، وإنهم مستعدون، إذا دعت الحاجة، إلى الصمود لأطول وقت ممكن ليشعر الباريسيون بنقص المواد الغذائية، ولإفهامهم أنهم بحاجة إلى المزارعين حتى يعيشوا».
وحذّر أرنو روسو، رئيس الفيدرالية الوطنية، في حديث للقناة الثانية للتلفزيون، الجمعة، من أن التدابير التي أعلن عنها أتال «لن تهدئ غضب المزارعين، لذا يتعين الذهاب أبعد من ذلك». وقالت لوسي دلبار، المسؤولة عن النقابة في شمال فرنسا إن الدولة «تسخر من المزارعين، ونرى جيداً أن الوضع قابل للانفجار». وبالنظر لما يخطط له المزارعون، فإن تأكيد أتال أن الدولة «لن تتخلى» عنهم ذهب أدراج الرياح.
تقليد مستمر
حقيقة الأمر أنها ليست المرة الأولى التي يُعبّر فيها المزارعون عن غضبهم. فكُل العهود الرئاسية عانت من حراكهم. واللافت أن المزارعين «يخيفون» الدولة بسبب قدرتهم على الإزعاج، وإغلاق الطرقات، والضغط على السكان. والدليل على ذلك أن وزير الداخلية أرسل تعليماته إلى المحافظين ومسؤولي الأمن يدعوهم فيها إلى التعاطي بـ«ليونة» مع المزارعين، والامتناع عن اللجوء إلى القوة، إلا في حالات الضرورة القصوى.
وإذا كان الحراك الراهن معروف الأسباب، وقد رفع المزارعون 120 مطلباً للحكومة تدور حول ثلاثة محاور رئيسية، فإن القطاع الزراعي يعاني من صعوبات «بنيوية» لن تتغلب عليها التدابير التي أعلن عنها أتال الجمعة. فقد سارع رئيس الحكومة إلى الإعلان عن إلغاء الزيادة في الرسوم المفروضة على الديزل الزراعي، وتقديم الدولة مبلغ 215 مليون يورو لتخفيف عبء المحروقات عن المزارعين بالتوازي مع مساعدات طارئة من 50 مليون يورو لمربي الأبقار، والمبلغ نفسه للمتضررين من العواصف غرب البلاد.
كما وعد أتال بتيسير الإجراءات الإدارية، معلناً «عشرة تدابير تبسيطية فورية». وأشار خصوصا إلى «تنظيف مجاري المياه الزراعية»، و«مهل الاستئناف ضد المشاريع الزراعية».
وعلى المستوى الخارجي، أكد أتال أن باريس «تعارض التوقيع» على الاتفاقية التجارية بين الاتحاد الأوروبي ودول أميركا اللاتينية الأعضاء في ميركوسور (البرازيل، والأرجنتين، وباراغواي، وأوروغواي)، بحجة وجود منافسة «غير شريفة» بين مزارعي هذه الدول والمزارعين الفرنسيين. وعدّ أن الدول المذكورة لا تُخضِع مزارعيها للقيود والمعايير نفسها التي يخضع لها المزارعون الفرنسيون، لجهة استخدام المبيدات أو القواعد البيئوية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي.
وحثّ رئيس الحكومة على التطبيق السليم للقوانين الفرنسية التي تهدف إلى حماية دخل المزارعين في سياق المفاوضات مع المصنعين والمتاجر الكبرى، وقال إن الحكومة ستفرض «في الأيام المقبلة عقوبات صارمة» على ثلاث شركات لا تحترم هذه القوانين، ووعد أيضاً بتعزيز المراقبة.
أزمة بنيوية
الثابت اليوم أن القطاع الزراعي في فرنسا يعاني، كما في كثير من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبولندا. وفي فرنسا، يشكو المزارعون، والصغار منهم على وجه الخصوص، من تراكم مديونياتهم، وتراجع دخلهم، وانعدام الثقة بالدولة، ومن أوروبا، ومن الفاعلين في قطاع الصناعات الغذائية ومن الوسطاء التجاريين الذين يحصلون على أكبر نسب من الأرباح.
ومنذ جائحة «كوفيد – 19»، دأب الرئيس الفرنسي على التركيز على أهمية القطاع الزراعي من أجل توفير ما يسميه «السيادة الغذائية» و«الأمن الزراعي». والحال أن هذا القطاع يتراجع، والدليل على ذلك أن فرنسا كانت تحتل، قبل عشرين عاماً، المرتبة الثانية عالمياً في الصادرات الزراعية، وهي تراجعت إلى المرتبة الخامسة؛ وفق تقرير صادر عن مجلس الشيوخ قبل عام ونصف العام.
وفي عام 2022، بلغت واردات البلاد الزراعية 63 مليار يورو. فرنسا تستورد مثلاً نصف استهلاكها من الدجاج، وأكثر من النصف من لحوم الأبقار، والأكثر إثارة أنها تشتري 71 في المائة من الثمار المستهلكة. والسبب في ذلك أن المنتجات الفرنسية أغلى سعراً من المنتجات المستوردة مثلا من إسبانيا أو إيطاليا أو الأرجنتين. والمفارقة أن تراجع عائدات المزارعين تتزامن مع ارتفاع غير مسبوق في أسعار المنتجات الغذائية والزراعية، ما ينعكس سلباً على القطاع الزراعي بطبيعة الحال، وخصوصاً على «الزراعة العضوية». وما فاقم الأزمة التضخم وبقاء المرتبات، بشكل عام، على الحال نفسها ما أصاب القدرات الشرائية لشرائح واسعة من المجتمع الفرنسي، وانعكس مباشرة على القطاع الزراعي.
يرى المراقبون أن الأزمة الراهنة ستكون لها انعكاساتها على الحكومة. فالرئيس ماكرون راهن على تعيين أتال رئيساً للحكومة من أجل توفير دعم سياسي لولايته الثانية، ولمواجهة حزب «التجمع الوطني» في الانتخابات الأوروبية المقبلة. والحال أن حراك المزارعين في الأيام الماضية «كسف» هذا التعيين. وإذا لم ينجح الأخير في احتواء الأزمة الحادة في الأيام القليلة المقبلة، وقبل «المعرض الزراعي» السنوي الذي يلتئم كل عام نهاية شهر فبراير (شباط)، فإن الأمور ستسير من سيئ إلى أسوأ، وستكون لها مضاعفات اجتماعية وسياسية مؤكدة.