بوبي تشارلتون… ابن عامل المنجم الذي أصبح رمزاً لكرة القدم الإنجليزية
مرت 36 دقيقة من المباراة الثانية للمنتخب الإنجليزي في نهائيات كأس العالم 1966، ولم ينجح الفريق، بقيادة المدير الفني ألف رمزي، في تسجيل أي هدف بعد. كان الأداء الضعيف في المباراة الافتتاحية قبل 5 أيام قد أدى إلى تقويض توقعات الجماهير بشأن قدرة المنتخب الإنجليزي على تحقيق المجد، والفوز بلقب المونديال في نهاية المطاف. كان غوستافو بينيا، قائد المنتخب المكسيكي، يعرف جيداً أن مصدر الخطورة يتمثل في القدم اليسرى القاتلة لبوبي تشارلتون، وبالتالي كان يراقبه بكل شراسة، لكن النجم الإنجليزي، الذي كان يرتدي القميص رقم 9، كان في أوج تألقه، وراوغ المدافع المكسيكي، وتخلص منه، وذهب إلى الاتجاه الآخر، وسدد كرة قوية بقدمه اليمنى من مسافة 25 ياردة لتدخل مرمى الحارس إغناسيو كالديرون. وفجأة تغير كل شيء!
وخلال 8 ثوانٍ فقط من تسلُّمه الكرة، تمكَّن تشارلتون وحده من تمهيد الطريق نحو أعظم إنجاز رياضي في تاريخ إنجلترا. ومن بين جميع اللحظات التي لا تُمحى والتي تُبرز مسيرته الكروية الحافلة مع النادي والمنتخب، تعد هذه اللحظة هي الأبرز على الإطلاق.
وبعد ذلك بعامين، كان هناك المزيد من اللحظات المشابهة عندما قاد مانشستر يونايتد للفوز بكأس أوروبا في المباراة النهائية ضد بنفيكا. وكان ذلك على ملعب ويمبلي الشهير مرة أخرى، حيث كسر حالة الجمود بهدف رائع من ضربة رأسية في بداية الشوط الثاني، قبل أن يحرز الهدف الرابع لفريقه من كرة عرضية من بريان كيد عند القائم القريب في وقت متأخر من الوقت الإضافي للمباراة التي انتهت بفوز مانشستر يونايتد بأربعة أهداف مقابل هدف وحيد.
لم تكن جميع الأهداف التي سجلها تشارلتون (249 هدفاً لمانشستر يونايتد في جميع المسابقات، و49 هدفاً مع المنتخب الإنجليزي) تحمل القدر نفسه من التألق الذي شهدناه في الهدف الذي أحرزه في مرمى المكسيك في عام 1966، لكن جميع تلك الأهداف كانت مهمة ورائعة بكل تأكيد. وسيظل أي شخص شاهد هذه الأهداف، أو حتى هدفاً واحداً منها، يتذكر ذلك جيداً بعد مرور نصف قرن من الزمان أو أكثر؛ لأن هذه الأهداف كانت من توقيع الرجل الذي أصبح، أكثر من أي شخص آخر، رمزاً لأفضل العناصر والجوانب في شخصية كرة القدم الإنجليزية.
ومن المضحك حقاً أن بوبي نفسه لم ينظر إلى إحراز الأهداف على أنها وظيفته الأساسية، حيث قال ذات مرة لأحد الصحافيين في «الغارديان»: «لم أنظر لنفسي قط على أنني هداف، فقد كنت لاعب خط وسط أو جناحاً». وفي أهم مباراة في مسيرته الكروية، كان له تأثير كبير في النتيجة النهائية، ولم يكن ذلك من خلال محاولته هز الشباك، ولكن من خلال الالتزام بتعليمات رمزي غير المتوقعة بمراقبة فرانز بيكنباور، الذي كان أهم لاعب في صفوف منتخب ألمانيا الغربية. وكان خصمه يحاول أن يفعل الشيء نفسه معه، حيث قال بيكنباور: «لقد فازت إنجلترا علينا؛ لأن بوبي تشارلتون كان أفضل مني قليلاً».
لقد كان بوبي تشارلتون حاسماً جداً حتى في المباراة التي طُلب منه ألا يبرز الجوانب الهجومية والقدرات الفذة التي يتمتع بها، وإنما يلتزم بالجوانب الدفاعية للحد من خطورة أحد لاعبي الفريق المنافس. وفي الذاكرة الجماعية لعشاق كرة القدم، يتذكر الجميع تشارلتون بسرعته الفائقة وقدراته الفنية والمهارية الفذة وكرته الجميلة، تماماً مثل النجم البرازيلي بيليه.
وبصرف النظر عن إصابة الكاحل التي تعرض لها والتي أخرت ظهوره للمرة الأولى مع الفريق الأول لمانشستر يونايتد في عام 1956، قبل 5 أيام من عيد ميلاده التاسع عشر، لم يتعرض بوبي تشارلتون لأي إصابة طوال مسيرته الكروية، كما لم يتسبب في أي مشكلة للحكام. ربما يعود السبب في عدم تعرضه للإصابات إلى عدم تدخله بقوة لاستعادة الكرة من المنافسين، وكان يترك هذه المهمة بسعادة لنوبي ستايلز أو بات كريراند!
لذلك، كان من المناسب لكاتب عظيم مثل آرثر هوبكرافت أن يستخدم الشعر والقصائد الغنائية لوصف هذا اللاعب الفذ، وقال في كتابه «رجل كرة القدم» في عام 1968، إن تشارلتون يجسد «ما تبدو عليه كرة القدم عندما نستمتع بها أكثر».
ويبدو أن قصة تشارلتون تمتد أيضاً إلى جذور كرة القدم الإنجليزية، وبالتحديد إلى المكان الذي تنمو فيه هذه اللعبة بشكل أعمق: شمال شرقي إنجلترا. كان والده عامل منجم فحم في بلدة أشينغتون بمقاطعة نورثمبرلاند. وكان بوبي الصغير يرافق والده في بعض الأحيان إلى المنجم يوم الجمعة، وهو اليوم الذي كان يحصل فيه والده على أجره. رأى الصبي رجالاً يخرجون من المنجم يغطيهم غبار الفحم، وتبدو عليهم علامات السعادة لأنهم يخرجون أخيراً، بينما كان الرجال الذين ينتظرون الدخول بدلاً منهم بائسين وتبدو عليهم علامات الحزن. لكن لم يكن هذا هو مصيره، ولا مصير أخيه الأكبر، جاك، الذي شاركه أعظم يوم في حياته عندما قادا المنتخب الإنجليزي للفوز بكأس العالم عام 1966. لقد كان بوبي وجاك ابنيْ عمومة من الدرجة الثانية من جهة والدتهم، للاعب العظيم لنادي نيوكاسل والمنتخب الإنجليزي، جاكي ميلبورن. وكان 4 من إخوة سيسي تشارلتون – والدة جاك وبوبي – يلعبون كرة القدم على المستوى الاحترافي أيضاً، وبالتالي كانت كرة القدم تجري في عروق جاك وبوبي منذ نعومة أظافرهما.
وبالنسبة لبوبي، طغت كرة القدم على أعشاش الطيور وصيد الأسماك وكل أشكال الترفيه الأخرى التي كانت تُمارس في مرحلة الطفولة في تلك البلدة التي كانت تعمل بالتعدين، ومحاطة بالريف. وعندما كان بوبي في المدرسة، كان فريق كرة القدم يلعب وهو يرتدي قمصاناً قرمزية اللون وأربطة عند الرقبة وسراويل قصيرة مصنوعة من ستائر سوداء. وقد اكتُشفت موهبة بوبي مبكراً، وانضم لنادي مانشستر يونايتد وهو في الخامسة عشرة من عمره. هل يمكنك أن تتخيل كيف كان المدرب مات بيسبي لا يصدق نفسه ويعتقد أنه كان يحلم عندما شاهد تشارلتون ينضم إلى الفريق الأول لمانشستر يونايتد إلى جانب دنكان إدواردز، الذي كان لاعباً فذاً أيضاً؟
هذا الشاب الصاعد تغير تماماً بعد كارثة ميونيخ الجوية، وهناك من يقول إنه لم يبتسم قط مرة أخرى بعد أن نجا من الحادث الذي أودى بحياة 8 من زملائه في مانشستر يونايتد، بمن في ذلك إدواردز.
وبعد وفاة تشارلتون، بات سير جيف هيرست، هو اللاعب الوحيد المتبقي من قائمة المنتخب الإنجليزي الفائز بكأس العالم 1966 على حساب منتخب ألمانيا الغربية آنذاك. وقال هيرست، الذي سجل 3 أهداف في النهائي (فازت إنجلترا 4 – 2): «أخبار حزينة جداً… واحد من الأساطير الحقيقية سير بوبي تشارلتون توفي». وأضاف: «لن ننساه أبداً، ولا كرة القدم كذلك، إنه زميل عظيم وصديق سأفتقده بشدة وكذلك البلاد، كل التعازي لعائلته وأصدقائه، من جيف وجوديث».
الجيل الجديد الذي لم يلحق بوبي تشارلتون في الملاعب، واكتفي بمشاهدة مبارياته أو لقطات من البطولات التي شارك فيها، كان أيضاً يشعر بالدهشة من براعة هذا اللاعب وأدواره المتعددة في خطَّي الوسط والهجوم. وفي نعي غاري لينيكر، نجم الكرة الإنجليزية السابق، للسير بوبي تشارلتون أشار إلى الإنجازات الخالدة التي حققها الأخير، وباتت فخراً للبلد بكل أطيافه.
وقال لينيكر: «أشعر بحزن شديد بعد سماع خبر وفاة السير بوبي تشارلتون، إنه لاعب رائع حقاً، ورجل لطيف، فاز بكأس العالم، وواحد من عظماء مانشستر يونايتد، وبالنسبة لي هو أعظم لاعب إنجليزي على مر العصور، إنه لم يعد بيننا الآن لكنه سيكون من الخالدين في كرة القدم».
واتجه نجوم مانشستر يونايتد السابقون إلى موقع «إكس» للتواصل الاجتماعي، حيث قال غاري نيفيل قائد الفريق سابقاً: «من المؤسف سماع نبأ وفاة السير بوبي تشارلتون… إنه أعظم لاعب كرة قدم إنجليزي، وأعظم سفير لمانشستر يونايتد، كان
بطلاً داخل وخارج الملعب، وهو واحد من أعضاء فريق بيسبي الذي مهّد الطريق لصنع تاريخ مانشستر يونايتد، ارقد بسلام سير بوبي».
ومن جانبه، كتب ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني: «أنا حزين جداً لسماع نبأ وفاة السير بوبي تشارلتون، لديه مكان في التاريخ بوصفه واحداً من أعظم اللاعبين، وكان محبوباً جداً، ارقد بسلام سير بوبي».
وكتب ديفيد بيكهام: «بدأ كل شيء من عند سير بوبي، حيث كان وراء حصولي على فرصة اللعب لمانشستر يونايتد…. كنت أتطلع إليه بوصفه مثلاً أعلى، كان بطلاً للكثيرين في أنحاء العالم وليس فقط في مانشستر أو في بلادنا عندما فاز بكأس العالم 1966. كان رجلاً نبيلاً حقاً… إنه خبر حزين لكرة القدم وكل شيء يمثله سير بوبي».
وقال غاريث ساوثغيت مدرب إنجلترا: «أحد أكثر اللاعبين شهرة لدينا. تأثير سير بوبي تشارلتون على فوزنا باللقب الوحيد لكأس العالم أمر يمكن للجميع رؤيته. عالم كرة القدم متحد بأكمله وبلا منازع في أحزانه على فقدان الأسطورة».
وقال روي هودجسون مدرب كريستال بالاس: «تشرفت بلقائه في مناسبات قليلة. إنه أسطورة حقيقية للعبة، أسطورة حقيقية لكرة القدم الإنجليزية. منتخب 1966 هو الفريق الأيقونة الذي سنتطلع إليه دوماً، ومن المحزن جداً أن نخسر أحد أفراده».
وأصدر جياني إنفانتينو رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بياناً: «بالنيابة عن (الفيفا) وأسرة كرة القدم العالمية، أرسل تعازيّ الحارة لعائلة وأصدقاء سير بوبي تشارلتون. تعازينا لفقدان أحد أساطير كرة القدم في منتخب إنجلترا الفائز بكأس العالم 1966… تعازينا وصلواتنا لكل من كان قريباً منه وزملائه السابقين، وللاتحاد الإنجليزي لكرة القدم ومانشستر يونايتد».
كان بوبي مشهوراً بأنه شخصية صارمة جداً، وكانت علاقته غير مستقرة على الإطلاق مع شقيقه جاك، الذي كان يمتلك شخصية أكثر انفتاحاً وهدوءاً، ومع جورج بست، حيث كان بوبي ينظر بارتياب وشك إلى عادته الغريبة (على الرغم من أن بوبي لم يتردد في عام 2007 في ضم بست إلى التشكيلة المثالية لمانشستر يونايتد عبر كل العصور، في خط الهجوم جنباً إلى جنب مع دينيس لو). وفي السنوات اللاحقة، عندما كان مديراً لمانشستر يونايتد، قيل إنه كان أحد أولئك الذين عارضوا فكرة التعاقد مع المدير الفني جوزيه مورينيو بديلاً لأليكس فيرغسون في عام 2013، لأنه يرفض الأساليب الاستفزازية التي يعتمد عليها المدرب البرتغالي.
وكتب بات كريراند في سيرته الذاتية يقول: «كان الناس وما زالوا ينظرون إلى بوبي على أنه شخصية قاسية. قد يكون كذلك بالفعل، لكن الصورة العامة المأخوذة عن بوبي لا تعكس شخصيته الحقيقية. إنه ليس رجلاً اجتماعياً، لكنه زميل لطيف. بوبي يشعر بالراحة مع بعض الأشخاص فقط. عندما تراه وهو يجلس مع زملائه مثل شاي برينان، ونوبي ستايلز، تشعر بأنه شخص مختلف تماماً: مرح وسعيد».
لقد وصف تشارلتون علاقته بكرة القدم بأنها ليست مهنة، وإنما عشق وعلاقة إجبارية. وكان لدى كريراند، الذي لعب معه أيضاً، نظرة ثاقبة في هذا الشأن أيضاً، حيث قال: «عندما كان يحصل على الكرة في فترة الإحماء قبل انطلاق المباريات، كان يبدو مثل الطفل الصغير الذي يحصل على لعبة جديدة. لقد كان لاعباً رائعاً، لكنه لم يتخلَّ قط عن المتعة عندما تكون الكرة بين قدميه».
وهذا هو الانطباع الذي ينقله جميع اللاعبين العظماء، حيث يُقيمون رابطاً خفياً بين الطفل الموجود بداخلهم وبين ممارستهم كرة القدم، ولذلك يبهرون ويمتعون عشاق اللعبة في كل مكان. وكان هذا هو ما جعل تشارلتون يصل إلى تلك المكانة بين لاعبي الصفوة في العالم في عصره، إلى جانب بوشكاش ودي ستيفانو، وبيليه وإيزيبيو، وجورج بست، ويوهان كرويف. لم يكن بوبي تشارلتون شخصية منعزلة ووحيدة قط، لكنه تأثر بالتأكيد بالمأساة الكبرى التي عاشها – كارثة ميونيخ الجوية – وهو في سن العشرين، بعد رحيل عدد كبير من زملائه بالفريق.
وفي اليوم الذي سجل فيه هدفي المنتخب الإنجليزي أمام البرتغال في الدور نصف النهائي ليقود منتخب بلاده للوصول للمباراة النهائية للمونديال في عام 1966، كان والده على عمق 800 قدم تحت الأرض، بعد أن فشل في الحصول على يوم آخر من الراحة.
واتضح أن بوبي تشارلتون شخص عاطفي جداً، رغم شخصيته التي تبدو صارمة، فأثناء ظهوره في برنامج «هذه حياتك» عام 1969، بكى مرتين: مرة عندما تطرق الحديث إلى كارثة ميونيخ الجوية، ومرة عندما ظهر جاكي ميلبورن على الشاشة، وهو يخاطبه – ويخاطب جمهور التلفزيون – من ملعب أشينغتون الذي كان يذهب إليه لتشجيع بوبي عندما كان طفلاً صغيراً.
ومن ذلك الملعب الموحل، كبر بوبي تشارلتون ليصبح شخصية عالمية. وفي ليلة من ليالي شهر يونيو (حزيران) 1968، عبر قطار «دايركت أورينت إكسبريس» السريع، تجره قاطرتان بخاريتان، الحدود بين يوغوسلافيا وبلغاريا في طريقه إلى إسطنبول. ودخل حارسان مقصورة الدرجة الثالثة وعلى وجههما علامات الجدية والصرامة، ليوقظا الركاب النائمين من أجل التحقق من المستندات المطلوبة. وعندما وصلا إلى شابين وشاهدا جوازي سفرهما باللون الأزرق الداكن، نظرا إلى بعضهما البعض، وقال أحدهما: «إنجليزي! بوبي تشارلتون!»، وهنا، ابتسم الرجلان، وكان الصمت كافياً لكي يقول كل شيء كانا يرغبان في قوله!
*خدمة «الغارديان»