د. محمد صباح السالم… كفاءة ونزاهة لقيادة المسار الحكومي في الكويت
لم يلقَ رئيس للحكومة في الكويت استبشاراً وترحيباً من مختلف القوى والاتجاهات السياسية مثلما لقيه رئيس الوزراء الحالي الشيخ محمد صباح السالم الصباح، ثم إنه طوال 12 سنة من ابتعاده عن العمل الحكومي كانت الأصوات تتعالى مطالِبة بعودته لقيادة دفة الحكومة خصوصاً في الأوقات التي تشهد فيها البلاد أزمات وانسدادات سياسية. الشيخ الدكتور محمد صباح السالم المولود يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1955 هو الابن الرابع للشيخ صباح السالم الصباح أمير دولة الكويت الثاني عشر، والثاني من سلسلة الأمراء الذين حكموا البلاد بعد الاستقلال. أما والدته فهي الشيخة نورية أحمد الجابر الصباح ومن ثم فأمير البلاد الحالي الشيخ مشعل الأحمد كما الأمراء السابقون الشيخ جابر الأحمد والشيخ صباح الأحمد والشيخ نواف الأحمد هم أخواله. أما شقيقه الأكبر فهو الشيخ سالم صباح السالم الصباح وزير الدفاع والداخلية الأسبق.
اختار أمير الكويت، الشيخ مشعل الأحمد الصباح، في لقائه مع الحكومة الجديدة بعد أدائها اليمين الدستورية، برئاسة الشيخ محمد صباح السالم، أن يصف المرحلة الجديدة التي تُباشر فيها الحكومة الجديدة مهامّها، بأنها مرحلة جديدة (..) مرحلة عنوانها «الإصلاح والتطوير»، ركائزها «العمل والإشراف والرقابة والمحاسبة»، وإطارها «الواجبات والحقوق الوطنية».
كان الأمير الشيخ مشعل الأحمد في أول خطاب له بعد أدائه اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة «البرلمان»، يوم 20 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قد شنّ هجوماً شديداً على الحكومة و«مجلس الأمة»، متهماً إياهما بالتواطؤ في الإضرار بمصالح البلاد.
ومما قاله الشيخ مشعل الأحمد، الذي تَسلّم الحُكم خَلفاً لأخيه الأمير الراحل، الشيخ نواف الأحمد الصباح، في خطابه أمام البرلمان: «إن الحكومة والمجلس توافقا على الإضرار بمصالح الكويت، وما حصل في تعيينات المناصب القيادية دليل على عدم الإنصاف»، ومن ثم أشار إلى «ما حصل من تغيير للهوية الكويتية، وملف العفو وتداعياته، والتسابق لإقرار قانون رد الاعتبار، كأنها صفقة تبادل مصالح بينهما».
أيضاً أكد الشيخ مشعل أنه من الضروري مراجعة واقع الكويت الحالي، خصوصاً على صُعُد الأمن والاقتصاد والأحوال المعيشية، مضيفاً «لم نلمس تغييراً أو تصحيحاً للمسار»؛ في إشارة إلى الخطاب الأميري، يوم 22 يونيو (حزيران) 2022، الذي دعا فيه إلى «تصحيح المسار»، وجرى بعده حلّ «مجلس الأمة» في أغسطس (آب) 2022، وإجراء انتخابات جديدة. وكان أمير الكويت قد قال، في خطابه أمام البرلمان آنذاك: «أكدنا في خطاباتنا السابقة أن هناك استحقاقات وطنية ينبغي القيام بها من السلطتين التشريعية والتنفيذية لصالح الوطن والمواطنين. وبالتالي، لم نلمس أي تغيير أو تصحيح للمسار، بل وصل الأمر إلى أبعد من ذلك عندما تعاونت السلطتان التشريعية والتنفيذية، واجتمعت كلمتهما على الإضرار بمصالح البلاد والعباد».
تساؤلات… بالجملة
لذا برز السؤال: هل يستقيم المسار الجديد مع برلمان اتهمه الأمير بالتواطؤ مع الحكومة للإضرار بمصالح البلاد والعباد؟
أليس من المرجح أيضاً أن تتجه الحكومة الجديدة هي الأخرى لصدام مع المجلس يؤدي لحلّه وانتخاب مجلس جديد يشكل مع حكومة جديدة مسار العهد الجديد، وهو ما عبّر عنه الأمير مكرّراً بـ«تصحيح المسار»؟
وعليه، لعلّ السؤال الأبرز، اليوم، ليس هل ستصمد الحكومة، بل إلى متى ستصمد الحكومة الجديدة، وهل ستتمكن فعلاً من اغتنام التأييد الشعبي للعبور إلى مرحلة الإصلاح وتحقيق الاستقرار السياسي، أم ستخوض بعد انقشاع الغيم، في وحل المناكفات السياسية المعهودة.
ثم هل نتوقع أن تغضّ بعض مراكز القوى التي حُرمت من المشاركة في الحكومة، الطرْف فتفسح الطريق لرئيس الحكومة أن يمضي قُدماً، أم ستتمكّن من تحريك أدوات التأزيم… وصولاً إلى حشر الرئيس والحكومة في المآزق السياسية.
البارز هنا ردّ الأمانة العامة لـ«مجلس الأمة» على ما قيل عن قيام أعضاء في المجلس بإغراق الحكومة الجديدة بالأسئلة، حتى قبل أن تتشكل، محاولين إبطاء حركتها أو دفعها للمواجهة مبكراً. هذه المزاعم ردّت عليها الأمانة العامة للمجلس بتصريح نفَت فيه «الأخبار المتداولة في شأن توجيه أسئلة برلمانية إلى رئيس مجلس الوزراء المكلَّف الشيخ الدكتور محمد صباح السالم»، مشيرةً إلى أن «جميع الأسئلة التي قُدّمت كانت موجَّهة للحكومة المستقيلة».
الرئيس النزيه
غالباً ما يختلف الكويتيون بشأن القيادات التي تتولى زمام الحكومة، لكنّ الشيخ محمد صباح السالم يحظى بشعبية عارمة، إذ يسبغ الكويتيون عليه عدداً من الشمائل؛ أبرزها النزاهة ونظافة اليد.
الأمين العام لـ«مجلس التعاون الخليجي» السابق، والكاتب الكويتي الدكتور عبد الله بشارة، قال، عبر مقال له في «القبس»، معلقاً: «أشعر من معرفتي بالشيخ محمد الصباح أنه ورث من والده أجمل الصفات: التواضع، ونظافة الضمير، وحب الخير، والإنصاف في الرأي».
وهنا نذكر أنه أنهى عمله الحكومي معترضاً على ما قيل إنه قضية تتعلق بالفساد. وكان آخِر منصب تولّاه عندما عُيّن في 8 مايو (أيار) 2011 نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للخارجية، واستمر في المنصب إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2011، حين قدَّم استقالته؛ احتجاجاً على ما يُعتقد أنه تقاعس الحكومة عن القيام بتحقيقات إزاء ما يزعم أنها قضية الإيداعات المليونية التي استفاد منها نواب في «مجلس الأمة» وآخرون خارج البلاد.
هذا الموقف أعطاه زخماً شعبياً، خصوصاً أن الحقبة التي أعقبت خروجه من الحكومة شهدت إثارة عدد من الملفات المتعلقة بالفساد. ولا يختلف اثنان على أن أولى مهام رئيس الوزراء الجديد ستكون معالجة ملف الفساد، الذي بلغ ذروته خلال السنوات الأخيرة، ووصل إلى حدّ التراشق بين أقطاب الحكومة – وهم أقطاب بارزون في الأسرة الحاكمة – كما حدث قبل سنوات قليلة بعدما اتهم وزير الدفاع الراحل الشيخ ناصر صباح الأحمد زميله في الحكومة وزير الداخلية (آنذاك) الشيخ خالد الجراح الصباح، بتجاوزات مالية. ويومذاك كشف عن وثائق تُظهر الاستيلاء على نحو 800 مليون دولار أميركي من صندوق لمساعدة العسكريين، عندما كان الجراح وزيراً للدفاع. ولقد أمكن، خلال الشهرين الأخيرين، إقفال ملف «صندوق الجيش»، بعد إدانة عدد من المسؤولين أبرزهم رئيس وزراء سابق، ووزير داخلية ودفاع سابق، وعدد من المسؤولين الآخرين.
من جهة ثانية، سبَق لمحكمة الوزراء أن قضت بحبس وزير الشؤون الاجتماعية السابق سبع سنوات مع الشغل والنفاذ، على أثر إدانته في قضية تنفيع من المال العام والإضرار به، عبر التواطؤ مع مالك شركة تعاونية، وإبرام عقد غير قانوني مع شركته بهدف تنفيعه.
قضية «الصندوق الماليزي»
يضاف إلى هذه القضايا ملفات فساد، مثل ملف أكبر قضية غسل أموال، المعروفة باسم «الصندوق الماليزي»، حين حكمت «محكمة الجنايات»، في 28 مارس (آذار) 2023، بحبس أحد أفراد الأسرة الحاكمة (شيخ) وشريكه ووافدين اثنين، 10 سنوات، وبحبس محام 7 سنوات، وإلزامهم بردّ مليار دولار، وتغريمهم متضامنين مبلغ 145 مليون دينار كويتي (ما يعادل نصف مليار دولار).
وتعود القضية الأصلية في ماليزيا، التي تضاف إلى سلسلة قضايا الفساد العالمية، إلى عام 2016، عندما رفع ممثلو الادعاء الأميركيون دعوى قضائية بهدف استعادة أصول بقيمة تتجاوز مليار دولار يقال إنها تتصل بمؤامرة دولية لغسل أموال مختلَسة من الصندوق السيادي الماليزي «1إم. دي. بي.» الذي يشرف عليه رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب عبد الرزاق، واستُخدمت لتمويل فيلم سينمائي في هوليود، وشراء عقارات وأعمال فنية شهيرة.
القضية أُثيرت في الكويت خلال مايو 2020، بعدما قدّم مسؤولون أميركيون في وزارة الدفاع معلومات إلى وزير الدفاع الكويتي السابق (الراحل) الشيخ ناصر صباح الأحمد، توضح تورّط عدد من المسؤولين السابقين في تسهيل تمرير عمليات مالية مشبوهة لصالح شركات صينية وماليزية عبر مشاريع مشبوهة.
وفي الكويت أثبتت التحريات دخول ما يقارب مليار دولار إلى حساب شخصية كويتية نافذة، ثم جرى إعادة تحويلها إلى الخارج. وتربط التحقيقات بين خبير ماليزي متهم في هذه القضية، وبين نجل رئيس وزراء كويتي سابق هو الشيخ صباح جابر المبارك، نجل رئيس الوزراء السابق، الذي أُلقي القبض عليه وسُجن على خلفية قضية «الصندوق الماليزي»، كما أُلقي القبض على شريك له في هذه القضية.
مؤشرات الفساد و«الشفافية»
وقبيل بداية العام الحالي، أظهر تقرير حديث أصدرته «جمعية الشفافية الكويتية» تراجع الكويت 4 مراكز في مؤشر مدركات الفساد لعام 2022. وأعلنت الجمعية التقرير السنوي الذي تُعدّه «منظمة الشفافية الدولية»، حين جاءت الكويت في المركز السابع عربياً بعد دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان والأردن والبحرين، وهو ترتيبها نفسه عربياً في التقرير السابق. وتراجعت الكويت في مؤشر مدركات الفساد درجة واحدة (من 43 إلى 42 من مائة)، مقارنة بمؤشر 2021، ما ترتب عليه تدني ترتيب الكويت 4 مراكز، إذ تراجعت من المركز 73 إلى 77 عالمياً.
مفرح المطيري، رئيس مجلس إدارة «جمعية الشفافية الكويتية» أوضح، من جهته، أن «منظمة الشفافية الدولية» أعلنت، نهاية ديسمبر الماضي، نتائج مؤشر مدركات 2022 تحت شعار «الفساد والنزاع والأمن»، الذي صنَّف 180 دولة حول العالم استناداً إلى مدى فساد القطاع العام بتلك البلدان، وذلك وفق إدراك الخبراء والمسؤولين التنفيذيين في قطاع الأعمال. ومما قاله المطيري: «لقد انخفض ترتيب دولة الكويت درجة واحدة في مؤشر مدركات الفساد العالمي لعام 2022 (من 43 إلى 42)، ما ترتب عليه تدني ترتيب الكويت عالمياً 4 مراكز (من المركز 73 إلى 77)، لكن لم يتغير ترتيب الكويت عربياً فظلت في المركزالـ7 في حين تدنّى ترتيبها خليجياً إلى المركز السادس لتقبع في ذيل ترتيب الدول الخليجية».
ومن ثم جاء خطاب أمير الكويت (يوم 17 يناير/ كانون الثاني 2024) أمام الحكومة الجديدة ليؤكد محاربة الفساد بوصفها أول أهداف العهد الجديد. وبعد أداء أعضاء الحكومة اليمين الدستورية أمامه، شدد الشيخ مشعل الأحمد الصباح على أعضاء الحكومة ضرورة العمل على «تطبيق القانون على الجميع دون استثناء وبلا تهاون، وترسيخ أمن الوطن وتوفير الأمان لمواطنيه وقاطنيه ومحاربة الفساد والمحسوبية».
«رجل الاقتصاد»
أيضاً قال الأمير الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، في خطابه للحكومة الجديدة التي يرأسها الشيخ محمد صباح السالم، الذي رسم فيه مسار المرحلة المقبلة: «إن ثمة ملفات عدة تنتظر منكم العمل والتخطيط، لعلّ أهمها: تعيين القياديين من ذوي الخبرة والكفاءة، والاهتمام بالشباب والمرأة، ومراعاة تكافؤ الفرص في التعيينات، والملف الاقتصادي الاستثماري، وتنويع مصادر الدخل والاستدامة المالية، وتعزيز دور القطاع الخاص، وحماية الأموال العامة، وتسريع وتيرة تنفيذ المشاريع الحيوية والتنموية، والتحول الرقمي تحقيقاً للشفافية والقضاء على الواسطة، وتعزيز السياسة الخارجية ودور دولة الكويت ومكانتها وثوابتها ومواقفها تجاه الدول الشقيقة والصديقة وقضاياها المشتركة». وشدد على أن تضع الحكومة «خطة عمل محددة الأهداف ملتزمة ببرنامج زمني».
في هذا الإطار، يتمتع الشيخ محمد الصباح السالم الصباح، بالفعل، بواحدة من أهم المميزات التي تجعله قيادياً للمرحلة المقبلة؛ ألا وهي الخبرة الاقتصادية، فالشيخ محمد، الذي تلقّى تعليمه العالي في الولايات المتحدة، حاصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من كلية كليرمونت ماكينا (إحدى كليات منظومة كليات كليرمونت الجامعية المرموقة في ولاية كاليفورنيا) عام 1978، ثم حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد ودراسات الشرق الأوسط من جامعة هارفارد؛ أعرق الجامعات الأميركية قاطبةً.
بعدها عمل الشيخ محمد في الحقل الأكاديمي، فشغل عدة وظائف؛ بينها وظيفة معيد عضو بعثة في قسم الاقتصاد بكلية التجارة والاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة الكويت بين عاميْ 1979 و1985، ثم أستاذ في القسم عام 1985، وانتدب إلى «معهد الكويت للأبحاث العلمية» من عام 1987 إلى عام 1988.
ومن ثم فهذه الكفاءة مطلوبة تماماً، بينما تحتاج الكويت إلى إصلاحات اقتصادية جوهرية، وهو ما يستدعي التعاون بين الحكومة والبرلمان لإقرارها، وهو أمر تعذّر تحقيقه في السنوات السابقة، وهذا الملف أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة ورئيسها.