أسهلُ على الطبيب الفلسطيني – البريطاني غسان أبو ستة تَرْك الأشياء وسط خرابها الكبير والتفرّغ لعيشٍ يتيح الخارج بعض رخائه. يفضّل الأرض المحترقة وإنسانها المسكون بالآهات في وقت الشدّة. خياره النبيل مردُّه الضميران الإنساني والمهني، وكلاهما بأقصى اليقظة. يضمّد الآلام ويخفّف النزف، وفي داخله نار تواصل التأجّج.
مشهدُه أمام المستشفى المعمداني وسط جثث مُمدَّدة في كل صوب، طبع الصورة المتعلّقة بمفهوم النخوة. فطبيب التجميل والترميم الذي هُجِّرت عائلته من بئر السبع عام 1948 إلى خان يونس في قطاع غزة، قدَّم جهوده لشفاء الإنسان تحت الظرف الحرج. كان النداء والاستجابة. في الوضعية الأولى، رفع الصوت أمام نفاد المستلزمات الطبية والدواء ومُخدِّر العمليات؛ وفي الثانية، مدَّ اليد وتنقّل بين غرف الجراحات، والمستشفيات، وكل مكان أُلقي فيه جريح، فهوَّن آلامه ومسح شيئاً من حزن الملامح وقسوة الفقد.
يصبح الشاهد على مجزرة «المعمداني»، بلباس الطبّ وأخلاق النبلاء. نجاته في تلك الليلة الساخنة، حمّلته «واجب» نجدة الآخرين. أجرى عشرات الجراحات وهدَّأ النفوس المرتعدة. شيءٌ من البلسمة المتنقّلة على رِجلين تأبى الإذعان للتعب. وإنْ تربَّص، تحايل عليه بتوليد القوة الجبّارة. فكيف للمرء أمام مشهدية الجثث والأطراف المبتورة، أن يتمالك أعصابه ويستمرّ؟ انفجر جزء من السقف، لكن غسان أبو ستة سَلُمَ لإعلاء رسالة. دوره إنقاذ ما تبقّى.
وُلد في الكويت، لأب فلسطيني وأم لبنانية. وفي جامعة غلاسكو بأسكوتلندا، تخصَّص بالجراحة. قد ينال كثيرون شهادة جراح، وهي خلاصة سنوات دراسة وبراعة وشجاعة. لكنّ أبو ستة جراح حروب. يأتي بقدميه إلى الجغرافيا المشتعلة وإنسانها المُطارَد بالنيران. مرات في غزة، وأخرى في لبنان وسوريا والعراق واليمن. يكون حيث نداء الواجب، والحشرجات.
أول طبيب عربي يضع منهجاً دراسياً متخصّصاً عن طب النزاع والحروب لمساعدة الأطباء المبتدئين في التدخّلات الجراحية اللازمة بعد المعارك؛ يجعل من حساباته في مواقع التواصل استغاثة الموجوعين. يقول الإنترنت كثيراً عن رجل تعلَّم وتنقَّل بين التجارب، لكن ما يبذله للمهنة والإنسان يُقرأ أولاً في عينيه. مشاركته قسوة الليالي وآلام الأطفال، هي لأنه الشاهد الأيقونة على الفظاعة، مباشرة من المستشفى وأسرَّة المرضى وبرادات الأموات. الحروب تُنجب ضحايا غالباً، وحرب غزة تقدِّم للعالم بطلاً برداء أبيض ووفاء.
تسكن ذاكرة غسان أبو ستة بقايا بيت جدّه المُصاب بالوحشية الإسرائيلية، وحزن المفجوعين في عينَي والده. فهو من أسرة انغمست باكراً في الحراك الفلسطيني، وغرست فيه الولاء حيال الأرض. على عكس السائد، يحضر في الأزمات وحين تغدُر العواصف، عوض الحضور في فترات الرخاء وعبور النسيم. دخل غزة بعد الحرب وانضمّ إلى فريق طبي يُسعف الممكن إسعافهم. وأمام القهر العصيّ على احتماله، غادر القطاع قبل أيام، وفي القلب مرارات.
يصف حال الزملاء: «يأتون إلى العمل كل صباح، وهم لا يعلمون هل سيبقى لهم منزل أو عائلة يعودون إليهما». أتى بمقولة: «لا مكان أكثر وحدةً في الكون من محيط سرير طفل موجوع لم تعد لديه عائلة تعتني به»، من رحم الأحزان. الإقامة الدائمة في المستشفى، تُضفي شعوراً بأنه «أب» لهؤلاء الصغار الأيتام: يخيط الجرح، ويرسل موضعاً إلى احتمال الشفاء، ويحتضن مثلما يفعل الآباء في اللحظة الصعبة. يكون للوحشة القلب الذي يروّضها.
يجعل من حسابه في «إكس» منبراً لصوت يناشد العالم العدالة والإنسانية. يكتب لآلاف الجرحى الذين يتعذّر علاجهم. للمستشفيات التي تُقصف. لليالي الطويلة، وللإنهاك حدّ الألم. وذات يوم، سرد قصة حزينة: «بترتُ ذراع طفلة عمرها 6 سنوات، وساقها. ثم كان عليَّ أن أخبر والدتها». ومرة أخرى كتب عن الظلم بشكله الفظّ: «الطاقم الطبي يلجأ إلى الخلّ لعلاج التهابات الجروح البكتيرية». ظلَّت الظلمة تعمّ، ورغم شدّتها، فإنه شقَّ نافذة للأمل. ففي 14 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، قال إنّ النوم خذله، والأرق أصابه حتى ساعات الفجر، لكنه شاهد المطر يهطل ويمسح الدخان المسموم من الهواء. راقب جمال السماء، ليعلن ولادة يوم جديد.
كرَّمه ملك الأردن عبد الله الثاني والملكة رانيا، والتقطوا صورة ثلاثية. على حسابها في «إنستغرام»، وصفته بـ«أحد الأبطال الذين سخّروا قلوبهم وأرواحهم لإنقاذ أكبر عدد ممكن من أهل غزة». في الواقع، يُكرَّم غسان أبو ستة بأي بلسمة يُحدِث وأي شفاء يُحقِّق. يُكرَّم بالإصرار على أن يكون أول الموجودين تحت الأخطار. وبينما تُدمَّر المنظومة الطبية في القطاع بالكامل، ويُترَك الأطباء لعجزهم أمام علاج كمّ هائل من الإصابات المروّعة والأمراض المعدية، يجد وقتاً ليُخبر العالم عن نقص الأدوية وانقطاع الكهرباء وشحّ المياه. محاربٌ على جبهات.
حديثه لـ«بي بي سي» عن زيارة جهاز مكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية، زوجته في منزلهما ببريطانيا، وتسبّبه بمضايقات بسؤالها عن سبب سفره إلى غزة والجهة خلف تسديد ثمن التذكرة، هو للإشارة إلى ضغوط لا تثنيه عن فعل الخير. يبقى من الإنسان أثره. وطبيب الحروب عطرٌ كامل الأثر.