أسبوع تاريخي عاشته الولايات المتحدة، شهد عزل مجلس النواب رئيسه للمرة الأولى في التاريخ، ما خلّف فراغاً تشريعياً غير مسبوق وجروحاً حزبية من الصعب أن تندمل في أي وقت قريب.
يستعرض برنامج «تقرير واشنطن»، وهو ثمرة تعاون بين «الشرق الأوسط» و«الشرق»، تداعيات عزل رئيس مجلس النواب وأبرز المرشحين لخلافته، إضافة إلى انعكاس الانقسامات على عمل السلطة التشريعية، والمراهنات الديمقراطية.
فرص ترمب
بانتظار العثور على مرشح توافقي والتصويت عليه لإنهاء الجمود التشريعي، بدأت الأسماء الجمهورية المرشحة لخلافة كيفين مكارثي في التنافس على حشد الدعم، من رئيس اللجنة القضائية جيم جوردان، مروراً بستيف سكاليز من القيادات الجمهورية، وصولاً إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
وأعرب ترمب عن انفتاحه لتسلم المنصب، خصوصاً أن قواعد المجلس لا تتطلب أن يكون رئيسه عضواً فيه. لكن مارا رودمان، الأستاذة في جامعة فيرجينيا والمسؤولة السابقة في مجلس الأمن القومي خلال إدارتي بيل كلينتون وباراك أوباما، تشير إلى أنه على الرغم من إمكانية انتخاب رئيس لمجلس النواب من خارج المجلس، «فإن القوانين تمنع كل من يواجه اتهامات من تبوء منصب قيادي. إذن لا يمكن أن يكون رئيساً لمجلس النواب». وتضيف رودمان: «سيتوجّب عليهم تغيير القوانين ليصبح مؤهلاً».
تتحدث رودمان هنا عن القاعدة الجمهورية رقم 26 في مجلس النواب، التي تمنع أي شخص وُجّهت تهم جنائية بحقه من تسلم مقعد رئاسة المجلس.
توضّح لورا كيلي، مراسلة السياسة الخارجية في صحيفة «ذي هيل»، قائلة: «بحسب قوانين الحزب الجمهوري، ترمب ليس مؤهلاً للترشح لمنصب رئاسة مجلس النواب، لأنه يواجه 4 قضايا جنائية. وقد رأينا وفقاً للقوانين أن كل من يواجه قضية فيدرالية، لا يمكنه أن يحتل منصباً قيادياً. رأينا ذلك مع السيناتور مينانديز حين صدر الاتهام ضده، اضطر إلى الاستقالة من رئاسة لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. إذن على الرغم من أن ترمب يصرّح بأن هناك عدداً من أعضاء المجلس الذين يرغبون بأن يكون رئيساً لمجلس النواب، فإنه في الحقيقة لا يمكن أن يحدث ذلك».
من جهته، يشير تشارلي بلاك، الخبير الاستراتيجي بالحزب الجمهوري ومستشار الحملات الانتخابية لجورج بوش الابن وجون مكاين، إلى غياب تدخل واضح من الرئيس السابق في مساعي «إنقاذ» مكارثي، على خلاف ما فعل بعملية انتخابه في يناير (كانون الثاني) الماضي. ويرجح أن يكون هذا نتيجة لعدم قدرته حينها على تغيير أصوات كثيرة، فيقول: «صحيح أن ترمب لديه تأثير على مناصريه في الكونغرس، لكن في الانتخابات الأولى التي مرّت بـ15 جولة تصويت، دعمه ترمب وكان يتصل هاتفياً بأعضاء مجلس النواب. ونجح حينها بتغيير صوتين أو 3 أعضاء نتيجة اتصالاته، لكن الكونغرس مشابه لنادٍ خاص، حيث يتمتع كل واحد بمجموعة خاصة من الأصدقاء والولاءات والعلاقات. وأي تأثير خارجي حتى من قبل شخص مثل ترمب لن يشكل أي فارق في النهاية».
ويذكّر بلاك بالقضايا التي يواجهها الرئيس السابق، مشيراً إلى أنه لا يتمتع بالوقت الكافي لأمور من هذا النوع، لأنه «سيجلس في قاعات المحاكم على مدى السنة المقبلة».
القاعدة «المعطلة»
وفي خضم الصراع الداخلي للعثور على مرشح توافقي يحظى بأغلبية الأصوات المطلوبة في مجلس النواب للوصول إلى مقعد الرئاسة، يحذّر بلاك من أن الرئيس المقبل سيواجه المشكلة نفسها التي واجهت مكارثي. وتتمثل في الموافقة على الشرط نفسه الذي وافق عليه، وهو أن يتمكن نائب واحد من طرح مشروع عزله في المجلس. وأوضح: «يعني ذلك أنه سيحاول ممارسة مهامه مع وجود مات غيتس وهو يصوّب مسدساً إلى رأسه، كما كانت الحال مع كيفن (مكارثي). وهذا يخلق الفوضى».
وفيما دعا مكارثي خلفه لتغيير القاعدة التي سمحت بإزاحته، تقول رودمان إن تغيير القواعد في مجلس النواب ليس بالأمر السهل: «إنها قواعد يتم وضعها كل عامين، أي أنها تكون نافذة لفترة دورة انتخابية واحدة أو فترة حكم المجلس، أي لفترة عامين».
وتشير كيلي إلى أن المشكلة الأساسية أمام قاعدة من هذا النوع أنها تفسح المجال لأي نائب يختلف مع رئيس المجلس، حتى لو كان هذا الاختلاف شخصياً، بالدفع باتجاه عزله. ولفتت إلى أن «هذا ما حصل في حالة مكارثي عندما صرح عدد من النواب المعارضين له بأنهم صوتوا ضده، لأنهم شعروا بأنه لم يمنحهم الأهمية المطلوبة». وأضافت: «كما رأينا، فإن الهامش لعزل كيفين مكارثي كان صغيراً جداً، ما زاد من أهمية هذه الانتقامات الشخصية».
انقسامات عميقة وقديمة
يقول بلاك، الذي عمل في حملات انتخابية جمهورية عديدة منذ عهد الرئيس الجمهوري السابق رونالد ريغان، إن الانقسامات الجمهورية لطالما كانت موجودة، لكن الفارق اليوم أن التعطيل بسبب هذه الانقسامات حصل نتيجة لهامش ضيق في المجلس. فالجمهوريون يتمتعون بأغلبية 221 صوتاً، وهو هامش 4 أصوات فقط.
ووجه بلاك انتقادات لاذعة للجمهوريين الثمانية الذين دفعوا لتنحية مكارثي، فقال: «إنها مشكلة جدية تسبب بها من أصفهم بمحبي الاستعراض، لأنهم لا يتصرّفون وفق ما هو في مصلحة الحكم. فهم لا يريدون حكومة محافظة أو أي نوع من الحكومات، بل هم يحاولون إغلاق الحكومة».
وأضاف بلاك: «عندما تكون الحكومة منقسمة في واشنطن، أي أن البيت الأبيض للحزب الديمقراطي ومجلس الشيوخ أيضاً، بينما الأغلبية للجمهوريين في مجلس النواب، وذلك بهامش ضئيل، فإن الطريقة الوحيدة للتصويت على تشريع تكون من خلال تسوية تضم الحزبين. ولطالما قمنا بذلك. لكن في هذه الحالة، قرر 8 نواب أنهم لا يريدون الامتثال بالتقاليد والتاريخ. فعزلوا رئيس مجلس النواب لأسبابهم الخاصة والأنانية».
وعززت رودمان أهمية التسوية في النظام الأميركي، فقالت إن «التسوية جزء لا يتجزأ من نظامنا وجزء من الرؤية العبقرية للآباء المؤسسين، فإقرار مشروع قانون أمر صعب والنظام الأساسي لمجلسي النواب والشيوخ يدفع بالأعضاء نحو التسوية. فمن غير العادي أن يستطيع حزب الأغلبية بالقيام بكل شيء لوحده، هذه تركيبة نظامنا».
وتتحدث رودمان عن تنامي نفوذ من تصفهم بـ«المتشددين» في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، قائلة: «أصف الأشخاص الثمانية الذي صوتوا ضد كيفن مكارثي بالمتشددين وليس بالمحافظين، لأني أعتقد أن المتطرفين من الحزبين متشددون. فالمحافظون يميلون إلى الإيمان بالمؤسسات الحكومية، والذين يعطلون من الجهات المتطرّفة ليسوا بمحافظين؛ بل إنهم متشددون».
وتشير كيلي إلى أن أحد أسباب تنامي نفوذ المتشددين، خصوصاً في مجلس النواب، أن كل عضو في مجلس النواب يمثل مقاطعة تضم مئات آلاف الأشخاص. «وهناك ناخبون مثل الذين يمثلهم النائب غيتس، يحبذون فكرة تمرّده واتخاذه موقفاً من هذا النوع»، على حد وصفها. وتضيف: «كان من الواضح أن النائب غيتس خلال سعيه لعزل مكارثي، كان يقوم بجمع التبرعات في الوقت نفسه».
وتتفق رودمان مع هذه المقاربة، خصوصاً في مجلس النواب، الذي يخوض أعضاؤه الانتخابات كل عامين، مشيرة إلى أن هذا يتطلب جمع كثير من التبرعات. وأشارت رودمان إلى تحديات من نوع آخر في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، فقالت إن «هؤلاء الأشخاص في الكونغرس يسعون لجمع التبرعات عبر الحصول على مزيد من المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي، وليس من خلال القيام بعملهم في المؤسسة. إذن يصبح الأمر أكثر صعوبة للمشرعين الذين يسعون لإنجاز مهامهم في الحكم، لأنهم أيضاً يجب أن يجمعوا التبرعات».
هل من حل في الأفق؟
يرجح بلاك أنه في إطار السعي لاختيار مرشح توافقي، قد يضطر المعتدلون من الحزبين للتعاون سوية لانتخاب مرشح في حال عدم قدرة الجمهوريين على الاصطفاف وراء مرشح واحد، مشيراً إلى وجود تجمع في مجلس النواب باسم «تجمع حل المشاكل» مؤلف من 32 نائباً جمهورياً و32 ديمقراطياً يعملون على التوصل إلى تسويات حزبية. وأوضح: «لقد حقق التجمع نتائج ملموسة في الماضي؛ من خطة الإغاثة خلال جائحة كوفيد وصولاً إلى قانون البنية التحتية وغيرها. فإذا قرر الاتفاق يمكن للنواب اختيار نائب جمهوري يعمل معهم على أسس ثنائية الحزب، ويمكن انتخاب رئيس مجلس النواب وترك هؤلاء الثمانية خارجاً».
لكن رودمان لديها نظرة أكثر تشاؤمية، إذ توقعت أن يبقى المجلس معطلاً لفترة طويلة لن تنتهي الأسبوع المقبل. وقالت: «آمل في أن يكون هناك حل. لا أعتقد أن الأمر سيكون كذلك، ولن أراهن على وجود حل. إن عزل رئيس المجلس في وقت نقترب فيه من الإغلاق الحكومي في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) مؤشر مخيف». وتضيف رودمان: «ما زالت الطريق طويلة أمامنا. ولسوء الحظ نحن كذلك أمام مشكلة حقيقية يواجهها الأمن الأميركي؛ وهي إيقاف الدعم لأوكرانيا بطريقة تهدد المصالح الأميركية وأمنها».