على مدار السنوات الماضية، عكف العلماء على تطوير تقنيات متعددة لمحاولة قراءة أفكار الإنسان وتفكيك ألغاز دماغه ومعرفة ما يفكر به دون الحاجة للاعتراف أو الكلام، في محاولة لإحداث اختراقات في مجال علاج العديد من الأمراض وإمكانية التواصل بنجاح مع فاقدي النطق.
وتنوعت تلك التقنيات بين أجهزة فحص الدماغ بالأشعة وغير ذلك من الوسائل المتطورة، حتى وصل الأمر إلى حد زراعة الرقائق الإلكترونية في دماغ البشر، لفك شفرة الأفكار الموجودة في المخ.
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، بدأت شركة «نيورالينك» الناشئة في مجال التكنولوجيا الحيوية، التي أسسها رجل الأعمال إيلون ماسك، استقطاب المشاركين لأول تجربة سريرية بشرية لهذا الغرض بعد الحصول على موافقة من إدارة الغذاء والدواء الأميركية لإجرائها.
وتركز تجربة «نيورالينك» على غرس شريحة في جزء من الدماغ جراحيا، لمرضى الشلل الرباعي، بهدف تسجيل الإشارات الدماغية وإرسالها إلى تطبيق حاسوبي، بهدف أولي يتمثل في «منح الأشخاص القدرة على التحكم في مؤشر الكومبيوتر أو لوحة المفاتيح باستخدام أفكارهم وحدها».
ويعمل ماسك على تحقيق هدف «نيورالينك» المتمثل في استخدام الغرسات لربط الدماغ البشري بجهاز الحاسوب في غضون 5 سنوات، لكن الشركة لم تختبرها حتى الآن سوى على الحيوانات.
نظام غير جراحي
وفي محاولة جديدة للتحكم في الدماغ، قام باحثون من مركز الذكاء الاصطناعي في جامعة التكنولوجيا بسيدني الأسترالية، في سابقة هي الأولى من نوعها على مستوى العالم، بتطوير نظام محمول غير جراحي يمكنه فك تشفير الأفكار الصامتة في الدماغ وتحويلها إلى نص، وعرضت النتائج ضمن مؤتمر «نظم معالجة المعلومات العصبية»، الذي عقد منتصف ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بمدينة مونتريال الكندية.
وأوضح الباحثون أن هذه التكنولوجيا يمكن أن تساعد في التواصل مع الأشخاص غير القادرين على التحدث بسبب المرض أو الإصابة، بما في ذلك مرضى السكتة الدماغية أو الشلل، ويمكن أيضاً أن تتيح التواصل السلس بين البشر والآلات، مثل تشغيل ذراع إلكترونية أو روبوت.
وتختلف هذه المحاولة عن التكنولوجيا السابقة لترجمة إشارات الدماغ إلى اللغة، التي تتطلب إما إجراء عملية جراحية لزرع أقطاب كهربائية في الدماغ، مثل جهاز «نيورالينك» أو المسح باستخدام جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، وهو جهاز كبير ومكلف ويصعب استخدامه في الحياة اليومية.
وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال البروفسور سي تي لين، الباحث الرئيسي للدراسة ومدير مركز الذكاء الاصطناعي في جامعة التكنولوجيا بسيدني، إن التكنولوجيا الجديدة تعتمد بشكل أساسي على ارتداء الأشخاص لما يشبه القبعة على الدماغ، وظيفتها تسجل نشاط الدماغ الكهربائي من خلال فروة الرأس باستخدام مخطط كهربائية الدماغ (EEG).
ومخطط كهربائية الدماغ هو اختبار يقيس النشاط الكهربائي في الدماغ باستخدام أقراص معدنية صغيرة (أقطاب كهربائية) متصلة بفروة الرأس. ويظهر هذا النشاط على هيئة خطوط متموجة في تسجيل مخطط كهربية الدماغ، ويعد المخطط أحد الاختبارات الرئيسية لتشخيص الصرع، ويمكن لمخطط كهربائية الدماغ أيضاً أن يؤدي دوراً في تشخيص اضطرابات الدماغ الأخرى.
ورغم أن هذا المخطط ليس جديداً، لكن الجديد الذي طوره الفريق هو نموذج الذكاء الاصطناعي المسمى (DeWave) الذي يقوم بتحليل نتائج المخطط إلى وحدات متميزة تلتقط خصائص وأنماطا محددة من الدماغ البشري ويقوم بترجمة تلك الإشارات إلى كلمات وجمل من خلال التعلم من كميات كبيرة من بيانات (EEG).
ويوضح لين في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «عند التعلم من بيانات إشارات الدماغ المرتبطة بالكلام في بيانات (EEG)، يمكن لنماذج التعلم العميق فك تشفير إشارات الدماغ البشرية غير الغازية (التدخلية) وتحويلها إلى لغة، كما يمكن أيضاً تحويل إشارة موجة مخطط كهربية الدماغ إلى جملة لغوية دون معالجة مسبقة أو مساعدة متتبع العين من خلال نماذج التعلم العميق».
ووفق الباحثين، تكافح هذه الأساليب أيضاً لتحويل إشارات الدماغ إلى نصوص كلامية من دون أدوات مساعدة إضافية مثل تتبع العين، التي يمكن أن تقيد التطبيق العملي لهذه الأنظمة، فيما يمكن استخدام التكنولوجيا الجديدة إما مع أو من دون تتبع العين.
وجرب الفريق التقنية الجديدة على 29 مشاركا، واستخدموا إشارات تخطيط كهربية الدماغ التي يتم تلقيها من خلال غطاء، بدلاً من الأقطاب الكهربائية المزروعة في الدماغ.
أداء متطور
وفيما يتعلق بترجمة مخطط كهربية الدماغ من حيث تحويل الإشارات إلى نصوص، أفادت الدراسة بأداء متطور يتجاوز المعايير السابقة؛ حيث حصل الباحثون على نتائج بلغت 41.35 درجة على مقياس (BLEU)، وهو مقياس للدقة اللغوية المستخدمة لتقييم جودة الترجمة الآلية. وتُحسب الدرجة عن طريق مقارنة النص المترجم مع مجموعة من الترجمات المرجعية عالية الجودة، مع مراعاة عدد الكلمات المتطابقة وترتيبها.
وقال الباحثون إن نموذجهم الجديد يحقق نتائج ذات معنى؛ حيث يقوم بمواءمة الكلمات الرئيسية وتكوين هياكل جمل متشابهة. ويأمل الباحثون في أن يروا هذا التحسن يتطور إلى مستوى يمكن مقارنته ببرامج ترجمة اللغات التقليدية أو التعرف على الكلام، التي تقترب من 90 في المائة.
وعن التطبيقات العملية المفيدة لنتائج البحث، أشار لين إلى أنها يمكن أن تسهم في تحويل الأفكار لدى المرضى غير القادرين على التحدث إلى لغة، كما يمكن أن تسهم في التحكم في الروبوتات بشكل أفضل، والتواصل بسلاسة معهم.
ورأى أن «هذا البحث يمثل جهداً رائداً في ترجمة موجات تخطيط كهربائية الدماغ الخام مباشرة إلى اللغة، ما يمثل تقدماً كبيراً في هذا المجال؛ حيث يقدم نهجاً مبتكراً لفك التشفير العصبي، وهذا التكامل مع النماذج اللغوية الكبيرة يفتح أيضاً آفاقاً جديدة في علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي». وأشار إلى أن فريقه سيواصل أبحاثه لتحسين دقة فك تشفير موجبات الدماغ، وجمع المزيد من البيانات والجمل التي تتعلق بالمحادثة اليومية أو التحكم بالروبوتات.