اليوم الأخير في «حرب غزة»… توقعات وسيناريوهات إعادة الإعمار
في غزة التي شهدت تصعيدات عسكرية على مدى سنوات، لا يكاد العائدون إلى منازلهم مستغلين الهدنة المؤقتة يصدقون هول ما شاهدوا. يقسم من تجاوزوا السبعين من عمرهم على أنهم لم يعهدوا في حياتهم حرباً مدمرة مثل تلك التي شهدها القطاع بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
ما لحق بغزة من دمار جراء هذه الحرب، يضع القطاع أمام مجموعة تحديات، أبرزها إعادة إعماره بعد انتهاء للحرب. وفي جميع عمليات التصعيد العسكري التي شهدها القطاع منذ عام 2006، لم تُسجّل عمليات نزوح بهذا الحجم، وفقاً لما ذكرته «وكالة أنباء العالم العربي».
ومع انتهاء كل تصعيد، كانت إسرائيل تفرض قبضة حديدية على حدود القطاع؛ فتمارس حصاراً وتدقق في كل ما يدخل إلى غزة، بما في ذلك مواد إعادة الإعمار التي كانت تخضع لإشراف إسرائيلي كامل، في ظل تحكمها في المعابر المؤدية للقطاع.
وفي ظل الدمار الذي خلَّفه أحدث تصعيد عسكري إسرائيلي، تثار تساؤلات بشأن من سيعيد إعمار القطاع هذه المرة، ومن سيديره بعد انتهاء هذه الحرب.
ومن المتوقع وصول تكلفة إعادة الإعمار إلى مليارات الدولارات، وأن تتجاوز بكثير سابقاتها التي أعقبت جميع جولات التصعيد الماضية. يأتي هذا أيضاً في ظروف مختلفة تماماً وأكثر تعقيداً.
والسؤال الأبرز هنا هو: هل سيشهد قطاع غزة تطبيق واحد من السيناريوهات التي أعقبت جولات التصعيد في أعوام 2006 و2008 و2014؟ أم إن هذه الحرب ستكون لها خصوصيتها التي ستفرض واقعاً جديداً؟
سيناريوهات سابقة
شهد شهر يونيو (حزيران) من عام 2006 تصعيداً بين إسرائيل وحركة «حماس»، بعد أن اختطفت الحركة جندياً إسرائيلياً على حدود قطاع غزة؛ حيث شنت إسرائيل حملة عسكرية واسعة على القطاع، أدت إلى تدمير كثير من المنشآت والبنية التحتية.
كانت إعادة إعمار غزة في أعقاب جولة التصعيد تلك عملية معقدة وصعبة، وتأثرت بعدة عوامل سياسية وأمنية واقتصادية؛ حيث كانت السلطة الفلسطينية ما زالت تسيطر على القطاع، قبل الانقسام الفلسطيني الذي وقع في العام التالي.
في ذلك الحين، عُقد أكثر من مؤتمر لإعادة إعمار القطاع بهدف جمع 1.9 مليار دولار، وهي القيمة التي حددها الفريق الوطني الفلسطيني لإعادة الإعمار؛ لكن حدث بعد ذلك انقسام فلسطيني، وشددت إسرائيل حصارها على قطاع غزة، فظلت عملية الإعمار تسير بوتيرة بطيئة ومعقدة للغاية.
وفي عام 2008، كانت عملية إعادة إعمار القطاع تهدف إلى إعادة بناء البنية التحتية والمنازل والمنشآت التي تضررت جراء الحرب على القطاع في نهاية ذلك العام ومطلع العام التالي، فضلاً عن إتمام ما تبقى من 2006.
شددت إسرائيل في تلك الأعوام حصارها على القطاع، وأصبح دخول مواد البناء عملية معقدة للغاية، على الرغم من توفير المانحين أموالاً لإعادة الإعمار.
ودفع الحصار حركة «حماس» إلى البحث عن حلول الأنفاق لإدخال المواد، والتي كان يتم تهريبها من الأراضي المصرية إلى غزة. وشهدت تلك الفترة مرحلة ما تسمى الأنفاق التجارية؛ حيث باتت مدينة رفح الحدودية مزار التجار وطريقهم للوصول إلى البضائع التي منعتها إسرائيل، وفي بعض الحالات كانت طريقاً لتهريب السلاح أيضاً، وفقاً لما ذكرته «وكالة أنباء العالم العربي».
وبعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014، تشكلت حكومة وفاق وطني فلسطيني، بالتوافق بين حركتي «حماس» و«فتح»، إثر اتفاق مصالحة بين الحركتين، وهو ما ساعد القطاع على تنظيم عملية إعادة الإعمار على أساس رسمي، حظي بتأييد ودعم دوليين.
نجحت حكومة «الوفاق الوطني» حينها في حشد دعم لعقد مؤتمر للمانحين في العاصمة المصرية القاهرة، في أكتوبر 2014، بحضور 50 دولة ومنظمة دولية. وتعهد المانحون بتقديم 5.4 مليار دولار لإعادة الإعمار.
كما تم الاتفاق وقتها على أن تختص حكومة «الوفاق الوطني» الفلسطينية بإدارة الأموال والمساعدات التي سيقدمها المانحون، والإشراف على المعابر الحدودية.
لكن عملية الإعمار واجهت صعوبات كبيرة بسبب الحصار الإسرائيلي والقيود على دخول المواد الأساسية، مثل الإسمنت والحديد والزجاج والوقود، وأيضاً بسبب الخلافات السياسية والأمنية بين الفصائل الفلسطينية، والتأخير في تحويل التعهدات المالية.
لكن تلك المرّة كانت الأولى التي تشهد عملاً منظماً للإعمار، مقارنة مع ما سبق.
حرب غزة 2023
لم تضع إسرائيل أهدافاً لجولات التصعيد السابقة مثل تلك التي وضعتها في الحرب الحالية، والتي لم تضع أوزارها بعد.
وتؤكد إسرائيل هذه المرة إصرارها على إنهاء حكم حركة «حماس» في القطاع، بينما تعوّل الحركة على تحريك الموقف الدولي، على نحو ربما يدفع نحو الضغط على إسرائيل من أجل وقف دائم لإطلاق النار.
لكن في جميع الأحوال، وسواء بقيت «حماس» في غزة، أو تمكنت إسرائيل من إنهاء حكمها، فإن إعادة إعمار القطاع هذه المرة ستكون بموجب عملية سياسية.
وبالتالي، فإن إعادة إعمار غزة ستظل مسألة معقدة وحساسة، وستتأثر بكثير من العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية.
ولا يوجد سيناريو واحد محدد لكيفية تنفيذ عملية إعادة الإعمار؛ لكن يمكن تصور بعض الاحتمالات بناء على التجارب السابقة والتطورات الحالية.
عودة السلطة إلى القطاع
يتضمن هذا السيناريو تشكيل حكومة محلية في غزة تتولى إدارة الحكم، وإعادة تفعيل المؤسسات الحكومية، ومساعدة المواطنين على استعادة حياتهم الطبيعية.
لكن هذا السيناريو يتطلب توافقاً سياسياً بين حركتي «حماس» و«فتح» والفصائل الأخرى، والتزاماً إسرائيلياً بفتح المعابر، والسماح بدخول المواد والمساعدات اللازمة لإعادة الإعمار.
أيضاً، يواجه هذا السيناريو صعوبات كبيرة، بسبب الخلافات العميقة بين الفصائل الفلسطينية، والموقف الإسرائيلي الرافض للتعامل مع «حماس»، فضلاً عن الضغوط الأميركية والدولية من أجل فرض شروط سياسية على الحكومة الفلسطينية، وفقاً لما ذكرت «وكالة أنباء العالم العربي».
ويبدو من تصريحات قيادة «حماس» أن هناك «فيتو» قد وضعته على المشاركة مع السلطة في الضفة الغربية، والتوافق مع حركة «فتح» بوضعها الحالي.
كما أن هذا السيناريو يتعارض مع الرؤية الإسرائيلية التي تهاجم السلطة ورئيسها محمود عباس، وترفض أن يكون جزءاً من الصورة القادمة في غزة.
أيضاً، تطالب الولايات المتحدة ودول أخرى بسلطة «متجددة» تكون المسؤولة في اليوم التالي لانتهاء الحرب في غزة.
ووفقاً للمعطيات المتوفرة، فإن هذا السيناريو ضعيف، ويعد مستبعداً بالشروط المعقدة من كل الأطراف.
إدارة مشتركة
يقوم سيناريو الإدارة المشتركة بين السلطة الفلسطينية و«حماس» على أساس تقاسم السلطة والمسؤوليات بين الطرفين الفلسطينيين، بحيث تتولى السلطة الفلسطينية الجوانب المدنية والإنسانية والإعمارية، بينما تتولى «حماس» الجوانب الأمنية.
ويهدف هذا السيناريو إلى تجنب الصدام بين الفصائل الفلسطينية، وتلبية مطالب المجتمع الدولي بعدم دعم «حماس»، وتخفيف الحصار الإسرائيلي على القطاع.
لكن هذا السيناريو أيضاً يواجه تحديات في تحديد آلية التنسيق والتعاون بين السلطة الفلسطينية و«حماس»، وفي التوازن بين الالتزام بوقف إطلاق النار مع إسرائيل والحفاظ على حق «حماس» في سلاحها.
ويقف في وجه هذا السيناريو الذي يمكن تسميته «سيناريو (حزب الله) في لبنان»، عوائق متعددة أخرى، أهمها الرؤية الدولية التي تكوّنت بضرورة تشكيل إدارة مدنية بحتة.
كما أن هذا السيناريو كان قد طرحه يحيى السنوار، رئيس حركة «حماس» في غزة، على قيادات فلسطينية عام 2018؛ حيث طلب أن تأخذ السلطة ما «فوق الأرض» وتحتفظ حركته بما «تحت الأرض»، وهو ما رفضته السلطة الفلسطينية جملة وتفصيلاً.
إدارة دولية
هذا السيناريو يتضمن تفويض الأمم المتحدة أو مجموعة من الدول الإقليمية أو العالمية، لتولي مسؤولية إعادة إعمار غزة، بالتعاون مع السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية.
ويهدف هذا إلى تجاوز العقبات السياسية والأمنية التي تحول دون تنفيذ الإعمار، وتوفير الدعم الفني والمالي واللوجستي لهذه العملية؛ لكنه يواجه أيضاً مشكلات في الحصول على موافقة إسرائيل و«حماس» على هذا الدور الدولي أو الإقليمي، وضمان عدم تدخل هذه الجهات في الشؤون الداخلية لغزة، أو فرض أجندات سياسية على الشعب الفلسطيني.
ووفقاً لبعض المصادر، فإن هناك شخصيات فلسطينية تعمل في مناصب مرموقة في مؤسسات دولية، مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، مرشحة بشكل كبير لتولي هذه المسؤولية، إن توافقت الأطراف الدولية والعربية على هذا السيناريو.
وهناك أيضاً سيناريو تولي مصر دور الوسيط والمنسق والمشرف على عملية إعادة إعمار غزة، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية و«حماس» والدول المانحة.
ويستند هذا السيناريو إلى الدور التاريخي والجغرافي والسياسي لمصر في القضية الفلسطينية، والثقة التي تتمتع بها القاهرة لدى الفصائل الفلسطينية والمجتمع الدولي؛ إلا أنه يواجه صعوبات في تحقيق التوافق بين المصالح المصرية والإسرائيلية والفلسطينية، وتأمين الإمكانات اللازمة لتنفيذ الإعمار بشكل فعال وشفاف.
كما أن مصر ترفض هذا الطرح بهذه الصيغة، وتدعو إلى أن يكون ضمن عملية سياسية شاملة تضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية.
السيناريو الدولي الثالث، هو أن تتولى قطر دور الراعي والممول والمنفذ لعملية إعادة إعمار غزة، بالتعاون مع «حماس» والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة، وهو سيناريو يستند إلى العلاقة الجيدة التي تربط قطر بـ«حماس» وإسرائيل، وفقاً لما ذكرته «وكالة أنباء العالم العربي».
لكن هذا السيناريو أيضاً يواجه تحديات في تنسيق الجهود مع الدول الأخرى المشاركة في إعادة الإعمار، وفي التغلب على المعوقات السياسية والأمنية التي تواجه تنفيذ المشاريع القطرية في قطاع غزة.
النهاية المفتوحة
ويعد سيناريو النهاية المفتوحة هو الأكثر احتمالاً؛ حيث تتحدث إسرائيل عن حاجتها لعام على الأقل لتحقيق أهدافها بالقضاء على «حماس» والإفراج عن الأسرى.
ويتضمن هذا السيناريو استمرار الحرب؛ لكن بقوة نارية أقل، ودون عقد اتفاق ملزم كما جرت العادة في جولات التصعيد الماضية.
ويعدّ هذا السيناريو الأقرب إلى ما حدث بعد تصعيد 2006؛ حيث استمرت إسرائيل في عقد هدنات قصيرة، لا اتفاقيات تهدئة شاملة وطويلة، وهو ما يرجحه بعض المراقبين الذين يعتقدون أن إسرائيل ستستمر في حربها بقوة نارية مختلفة، وصولاً إلى «إغلاق الحساب».
غير أن هذا السيناريو يعد الأكثر ضرراً للمواطنين الفلسطينيين في غزة؛ حيث إن استمرار الحرب لفترة أطول مع عدم وجود أفق لبدء مرحلة إعادة الإعمار، يعني استمرار الوضع المعيشي المتردي، وبشكل خاص في شمال وادي غزة.
كما يعني هذا السيناريو استمرار القيود الإسرائيلية على كل شيء يدخل إلى قطاع غزة، بدءاً من المواد الإغاثية، ووصولاً إلى المحروقات.
ولن يكون تطبيق سيناريو النهاية المفتوحة سهلاً على جميع الأطراف، ما يجعل التوقعات تذهب إلى حراك سياسي متصاعد للوصول إلى اتفاق يضمن هدوء إطلاق النار، ويؤسس لمرحلة جديدة في القطاع، في مقدمتها إعادة الإعمار.
هذه السيناريوهات لعملية إعادة الإعمار تحتاج مساراً مختلفاً للتعامل معها؛ فكل عمليات إعادة الإعمار في الحروب السابقة لم يصل حجم الضرر فيها إلى ما وصل إليه الوضع في الحرب الحالية، ما يعني أن ما يمكن أن يحدث ليس إعادة إعمار؛ بل إعادة بناء كاملة حال توفّرت الظروف المناسبة.
اكتشاف المزيد من صحيفة دي إي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.