«الفنّ سلاح يخترق العيون والآذان وأعمقَ المشاعر الإنسانيّة». تعود هذه المقولة إلى مائة سنة خلت. قالها الرسّام المكسيكي ديفيد ألفارو سيكويروس، الذي دمج بين الالتزامين الفني والمجتمعي خلال مسيرته. تُثبت نظريّته أنها ما زالت على صواب، ففي الحرب على غزة، تعدّدت الأسلحة وقد برز من بينها سلاح الفنّ.
استلّ الرسّامون ريشاتهم وجنّد المصممون مخيّلاتهم، محوّلين مأساة الميدان إلى لوحاتٍ ورسوم غزت منصات التواصل الاجتماعي وتفاعلَ معها الملايين حول العالم.
فاطمة لوتاه ووجوه الفاجعة
منذ الشرارة الأولى، تفرّغت الفنانة التشكيليّة والرسّامة الإماراتيّة فاطمة لوتاه، لتجسيد وجع غزة ألواناً صارخة ووجوهاً اعتلتها الفاجعة. بوتيرة شبه يوميّة، تسكب ألمَها على اللوحات، وآلامَ الغزّيين معه. كأنّ لوتاه وضعت انشغالاتها كلّها جانباً، وكرّست الوقت لرفع صوت أهل غزة. مَن يراقب صفحتها على «إنستغرام»، يخرج بانطباعٍ أنّ تلك السيّدة تُمضي كل ساعات يومها وهي تنقل الصورة الدامية على طريقتها، منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
بنظرها، ما عاد للوقت قيمة، فلا أولويّة تعلو على مآسي أهل غزة. «ليس الوقت الذي يستغرقه إنجاز اللوحة مهماً، المهم أن تصل الصرخة. لم يكن هناك قرار بالرسم عن غزة، ولا حتى وقت للتفكير في اتخاذ قرار»، تخبر لوتاه «الشرق الأوسط» عن بدهيّة خطوتها. سحقَها ما شاهدته عبر الإعلام من أهوال، ومع أنها نشرت حتى الآن أكثر من 30 لوحة عن المأساة، فإنّ ذلك لم يساعد في التخفيف من حزنها ولا في احتواء غضبها حيال ما يحدث. «ليس بالإمكان التفكير في قرارات بعد رؤية دموع طفلة فقدت كل ما تملك في لحظة»، تقول لوتاه.
تقتبس الفنانة الإماراتية من الميدان، لتضيف لمستَها إلى واقعه المفجع. هذا طفلٌ هاربٌ من الدمار، اصطبغ جزءٌ من وجهه بالأحمر القاني. وذاك أبٌ حمل أولاده الخمسة تاركاً خلفة دخانَ بيتٍ كان. وما بينهما، طفلة سيّجها البياض فارتقت «ملاكاً»… تسمّيها لوتاه «ملاك غزة».
يتنوّع أسلوب الرسم ما بين اليدوي التقليدي وفنّ الديجيتال الذي تنفّذه لوتاه على الهاتف. لكن مهما تعدّدت الأساليب التقنيّة، وأينما لمعت الفكرة أكان داخل المرسم أم على شاشة الهاتف، فإنّ الهدف المعنوي واحد بالنسبة إليها: «إحدى أهمّ مسؤوليات الفن هي محاولة لفت نظر المُشاهد إلى ما يحدث حوله، وذلك بهدف تغيير هذا المشهد أو على الأقلّ محاولة تغييره».
لا تُخفي أنّها اعتادت بثّ النور والجمال من خلال فنّها، «لكن ثمّة لحظات في الحياة تفرض عليك أن ترسم الألم. واليوم، أكثر من أي وقت، أنا أرسم ما تحدّثني به روحي». وتضيف لوتاه أنّ كل ما يحدث في غزة حفر عميقاً في روحها كإنسانة، وليس في مخيّلتها كفنّانة.
رامي قانصو و«قبلة الحرّية»
يتلاقى الفنان البصَري اللبناني رامي قانصو مع مقولة الرسّام المكسيكي سيكويروس. يسمّي الفنّ «سلاحاً»، والدليل على ذلك أنه يلعب دوراً محورياً بنشر الوعي في العالم الافتراضي. ففي الميدان معركة عسكريّة، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي يخوض الفنّ معركته الخاصة من أجل إيصال صوت فلسطين وغزة وصورتيهما الحقيقيّة.
لا ينشر قانصو بالكثافة ذاتها التي تنشر بها فاطمة لوتاه، إلا أنّ أحد أعماله لاقى تفاعلاً كبيراً، وهو بعنوان «قبلة الحرّية». عن سابق تصوّر وتصميم، وبهدف جذب الرأي العام الغربيّ، انتقى قانصو لوحة الرسّام النمساوي الشهير غوستاف كليمت «القبلة»، وأدخل إليها تعديلاته الخاصة لتُلاقي الحدث في غزة.
يشرح قانصو لـ«الشرق الأوسط» كيف أنه استعار لوحة كليمت، وبدّل خريطة فلسطين بالمرأة التي فيها، مغطياً إياها بالكوفيّة. ثمّ عدّل ألوان اللوحة إلى أخضر العلم الفلسطيني وأحمرِه.
منذ فترة، وحتى قبل اندلاع الحرب على غزة، خطرت الفكرة في باله، خصوصاً أن اللوحة عموديّة، وهذا ذكّره بشكل الخريطة الفلسطينيّة. لكنه أراد أن يضمّنها رسالة إضافيّة عن رمزيّة الرجل الفلسطيني. «غالباً ما يركّز الإعلام على الضحايا من النساء والأطفال، ولا يذكر الرجال»، يقول قانصو. «من دون انتقاص من النساء والأطفال، إلا أنّ الرجل الفلسطيني بطل اللوحة، فهو إنسان كذلك وربّما لم يشأ الموت».
فعلت اللوحة فعلَها فجذبت أنظار الغرب، من أوروبا إلى بريطانيا وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية. يبيع رامي يومياً نحو 4 نسخ من «قبلة الحرية»، وهو يستعدّ لإرسال الإيرادات إلى غزة.
في تلك اللوحة وفي سواها من رسوم يكرّسها للحدث الفلسطيني، وكذلك في تلك التي واكب من خلالها الأحداث اللبنانية سابقاً، يتنقّل قانصو بين مجموعة من التقنيات البصريّة ووسائل «الديجيتال». يعدّد من بينها فن تركيب العناصر أو «الكولاج (collage)»، إضافة إلى برنامجَي Photoshop وIllustrator.
ها هو زيتون فلسطين المعمّر يطلّ على صفحاته ضمن إطار عصري حدّدت التكنولوجيا معالمه، من دون أن تقتلع جذوره الإنسانيّة والثقافية.
احتاج رامي قانصو إلى وقتٍ لاستيعاب الحدث قبل أن تكرّ الأفكار والألوان على شاشته. فضّل عدم القفز فوراً من صدمة الميدان والأهوال الإنسانية إلى تنفيذ الأعمال الفنية. يوضح تلك النقطة قائلاً: «كفنانين يجب أن نشعر بعمق الوجع وأن نفهم أحاسيس الناس ونستوعبها، قبل أن نحوّل المشهد الدامي إلى عمل فنّي».
زيتون غزة وعصفور الشمس
لم يقتصر الفن المقتبس من أحداث غزة على الأنامل العربيّة، بل انسحب على فنانين من الغرب. من بين هؤلاء، تميّزت بيونيكا فرناندو، وهي بريطانية من أصول سريلانكيّة. كرّست الفنانة البصريّة الشابة صفحتها على «إنستغرام» للمرأة الفلسطينية ولأطفال غزة، فأعادت رسمهم. لم تنسَ فرناندو تفاصيل البلاد، كغصون الزيتون وعصفور الشمس الفلسطيني.
ولأبطال غزة الجدُد من مراسلي الميدان، وجّهت فرناندو تحيّة بالألوان فخصّت كلاً منهم بـ«بورتريه». علّقت بالقول على لوحاتها تلك، والتي لاقت رواجاً كبيراً: «هم يخاطرون بحياتهم كي يُظهروا لنا الحقيقة».