من المعروف أن طبيعة الحرب لا تتغيّر. فهي ثابتة ثبات الطبيعة البشريّة. لكن المُتغيّر في الحرب هي خصائصها، التي تتمثّل في الأبعاد التالية: السياسة، والاجتماع، والاقتصاد. لكنَّ الحرب بحاجة إلى مثلّث ماسّي لا يمكن الاستغناء عنه، هو:
1- العقيدة العسكريّة، أي أفضل طريقة لقتال العدو والانتصار عليه. وهي بدورها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: تنظيم القوى، وتسلح القوى، وتدريبها. هذه الأقسام الثلاثة ليست منفصلة بعضها عن بعض. لا، بل هي تشكّل بوتقة واحدة يتفاعل بعضها مع بعض لكسب الحرب.
2- التكنولوجيا المتوافرة. وهي التي تتفاعل مع الاستراتيجية والتكتيك لتعطي أفضلية فريق على آخر. فعلى سبيل المثال، غيّر الرُّكّاب (Stirrup) في سرج الحصان طريقة قتال الفارس. فهو أعطاه الثبات، حريّة الحركة والقدرة على القتال بسهولة ومن على ظهر الحصان، إذ كان يُشكّل الحصان وقبل قدوم الدبابة قوّة الصدم في حقل المعركة.
3- القيادة (Leadership). بعد قدوم الموجة – الثورة التكنولوجيّة، ودخولها المجال العسكريّ. وبعد حرب الخليج الأولى التي شكّلت بوصلة الحرب الحديثة، بدأت قيادات جيوش العالم التحضير لحرب عن بُعد، حرب من ضمن الشبكة العنكبوتيّة التي تدمج أبعاد الحرب من التكتيكي إلى الاستراتيجي مروراً بالعملانيّ. تمّ العمل على الأسلحة الذكيّة للتقليل من الخسائر البشريّة الجانبيّة، كما لتقليص التكلفة في الذخيرة. ولأن دورة (cycle) الابتكار التكنولوجي قصيرة جدّاً، ولأن تمويلها أسهل في القطاع الخاص منه في القطاع العام، ولأن بيروقراطيّة الدولة بشكل عام هي بيروقراطيّة جامدة، ثقيلة… بدأ القطاع الخاص بمنافسة القطاع العام للهيمنة على الثورة التكنولوجيّة. حتى إن الشركات في القطاع الخاص، أصحبت من أهم اللاعبين الجيوسياسيين في العالم. وإلا كيف يُفسّر تأثير شركة «ستارلينك» التي يملكها إيلون ماسك على مسار الحرب الأوكرانيّة؟ فلولا الأقمار الاصطناعيّة لهذه الشركة التي أمَّنت القيادة والسيطرة للجيش الأوكرانيّ، لَمَا كانت أوكرانيا قد صمدت هذه المدّة أمام الهجوم الروسيّ، ولَكَان العالم تغيّر جذريّاً نتيجة للسيطرة الروسيّة على كلّ أوكرانيا.
بعض العقائد العسكريّة
نُسب في عام 2014 إلى الجنرال الروسي فاليري غيراسيموف، عقيدة سُمّيت باسمه «عقيدة غيراسيموف». تبرّأ من هذه التسمية بعدها الكاتب مارك غاليوتي، لأنه كان مصدر هذه التسمية. تعتمد هذه العقيدة على استعمال وسائل قوّة الدولة باعتماد النسبة 14 (Ratio)، أي الاعتماد على القوّة العسكريّة بنسبة 25 في المائة مقابل 75 في المائة للوسائل غير العُنفيّة، كالاقتصاد مثلاً، والإعلام، وغيرها من الوسائل.
نجحت هذه العقيدة في ضم شبه جزيرة القرم، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في الحرب على أوكرانيا. ففي الحرب الأوكرانيّة، انقلبت النسبة بين القوّة الطريّة والقوّة الصلبة.
في حرب الخليج الأولى، اعتمدت أميركا عقيدة القتال «جو – برّ»، أو «Airland Battle»، التي كانت مُخصّصة لقتال الاتحاد السوفياتي في أوروبا. نجحت هذه العقيدة نجاحاً باهراً في تحرير الكويت، لكنها غرقت في رمال صحراء العراق بعد اجتياح عام 2003.
في عام 2023 كتب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الحالي عقيدة تحت مُسمّى «Maalot» أو «الصعود» بالعربيّة. ترتكز هذه العقيدة على تدريب الجيش على الحرب الهجينة «Hybrid»، من ضمن قتال مشترك لقوى البرّ، والوحدات الخاصة، والمدرّعات، والهندسة، والدعم الجوّي. كان أول وأصعب اختبار لهذه العقيدة في الحرب على غزة.
صراع القوى العظمى
يوجد في عالم اليوم نحو 12512 رأساً نوويّاً، لكن لا يزال النادي النووي محصوراً في القوى الكبرى، مع بدء دخول القوى العظمى الإقليميّة إليه. فماذا يعني هذا الأمر؟
يقول المفكّر الأميركي الراحل كينيث والتز: «أكثر يعني أفضل». ويَقصد من هذه المقولة أنه كلما كانت هناك أسلحة نوويّة أكثر كان ذلك أفضل للعالم. بمعنى أن القوى العظمى لن تذهب إلى حرب مباشرة بعضها مع بعض بسبب الرادع النوويّ. إذاً إلى أين من هنا؟
الحرب بالواسطة
كانت الحرب بالواسطة، وهي الآن وستبقى إلى أجلٍ غير مُسمّى. في القرن الخامس (ق.م)، قاتلت إسبرطة أثينا بالواسطة في جزيرة صقليّة. خلال الحرب الباردة قاتل الاتحاد السوفياتي أميركا في كلٍّ من كوريا وفيتنام. كما قاتلت أميركا الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
حالياً تقاتل أميركا «روسيا – بوتين» بالواسطة في أوكرانيا.
داود vs جوليات
لن يختلف القرن الحادي والعشرين عن القرن الذي سبقه. فالحروب بالواسطة سوف تكون النمط الأكثر حضوراً. لكن لماذا؟
لأنها قد تكون في المناطق المأهولة، أو ما تُسمّى حرب المدن. تُشكّل حرب المدن عامل التوازن بين الأقوى والأضعف. فهي تحرم القويّ من استعمال كلّ ما يملك. وتعطي الضعيف فرصة استعمال كلّ ما يملك (Equalizer).
في عام 2050، وحسب الأمم المتحدة، فإن 68 في المائة من سكان العالم سيكونون في المدن. يوجد في العالم حالياً 32 ميغا – مدينة، أي المدينة التي يصل عدد سكانها إلى أكثر من 10 ملايين نسمة. لكن بحلول عام 2030، سيرتفع هذا العدد إلى 43 ميغا – مدينة. في العالم حالياً هناك 578 مدينة تحوي أكثر من مليون نسمة. لكن بحلول عام 2030، سيصبح العدد 662 مدينة. فهل يمكن ابتكار عقائد عسكريّة لعالم فوضويّ؟ هذا هو التحدّي الأكبر للقوى العظمى والكبرى، خصوصاً أن ابتكار العقيدة العسكريّة، لا يعني بالطبع نجاح هذه العقيدة. فالعقيدة توضع عادةً ردّاً على تجربة سابقة. فمَن يضمن أن تتكرّر التجربة السابقة في المستقبل؟